9 سنوات على حرب تموز/ يوليو اللبنانية ـ الإسرائيلية : رؤية استراتيجية
صحيفة السفير اللبنانية ـ
توفيق شومان:
يستمر الجدل السياسي، أو يكاد، حول حرب تموز/ يوليو في العام2006 ، على أرضية لبنانية، لا يبدو بعد تسع سنوات ،انها مؤهلة لقراءة متأنية لهذه الحرب، ولا للابعاد الإستراتيجية التي آلت إليها. وفي حين أن القيادة الاسرائيلية، استعجلت منذ لحظة وضع الحرب أوزارها، في تشكيل لجنة لدراسة الإخفاقات الناجمة عن حرب تموز/ يوليو ، بدت البيئة اللبنانية و وبعض من شقيقتها العربية، ميالتين الى تجاوز القراءة الإستراتيجية للحرب المذكورة كونها مدخلا لتبلور مفاهيم ونظريات أمنية وعسكرية جديدة، وثيقة الإتصال بالصراع العربي – الاسرائيلي، وكذلك بنظريات الحروب وفنونها ومدراسها.
بعيدا عن السجال اللبناني المقيت، تشكل حرب تموز / يوليو ,2006 ،أولى الحروب ، التي أفضت إلى مراجعة نظرية «الحرب من فوق»، أي الحرب بالاعتماد على سلاح الجو، كعامل حاسم في تقرير نتيجة الحرب، فهذه النظرية التي سجلت انطلاقتها اقليميا في حرب الخامس من حزيران / يونيو,1967 توسعت الى حدود تحولها الى «مدرسة في الحرب». كان من تطبيقاتها حرب تحرير الكويت من الغزو العراقي في شباط ,/ فبراير 1991 وحرب كوسوفو في العام ,1998 واستطرادا حرب اسقاط النظام البعثي في العراق في نيسان /إبريل من العام 2003 .
في حرب الأيام الستة تمحورت الأهداف الاسرائيلية حول «تمصير» الطموحات الناصرية واحتلال أراض جديدة بغية التفاوض حول المرحلة المقبلة (القرار 244 – مشروع روجرز) وهو الأمر الذي تحقق من خلال الموافقة على القرار الدولي والمشروع الاميركي فضلا عن انكشاف أمني وعسكري عربي خطير، اصطلح المسؤولون عنه آنذاك، على تسميته بـ«النكسة»، وعمليا، دشنت نظرية «الحرب من فوق». اول تطبيقاتها الصارخة في حرب الخامس من حزيران/ يونيو في العام 1967.
أما العام ,1991 فقد تجمعت أهداف الحرب بمطلب الإنسحاب العراقي من الكويت، ونجحت نظرية «الحرب من فوق» في تحرير الكويت خلال ايام (ساعات)، وفي حرب كوسوفو – صربيا من العام ,1998 فقد عمل حلف شمالي الاطلسي على تكثيف مفاعيل هذه النظرية اعتمادا على قصف جوي غير مسبوق، أفضى الى تغيير الوضع القائم في صربيا، وهذا ما ينطبق عمليا على وقائع الحرب الأميركية في العراق في العام 2003 .
لبنانيا، لم تفلح نظرية «الحرب من فوق»، في قطف أهدافها، فلا «القضاء على حزب الله»، تحقق ولا تفكيك الهياكل العسكرية للمقاومة عرف نجاحا. وإذا كان هذان الهدفان قد شكلا خلفية وبعدا لحرب تموز / يوليو,2006 فإن الفشل الذي عصف بهما، جعل من نظرية «الحرب من فوق»، في موضع التساؤل والمراجعة واعادة النظر وصلاحيتها في كل مكان وزمان.
ذاك على المستوى النظري والعام، لكن على المستوى الإسرائيلي، فإن النظرية المسبوقة الذكر، والتي صاغت أحد أهم معالم التفوق العسكري الاسرائيلي ذي التكريس العملاني منذ العام 1948، باتت هي الأخرى محل سؤال كبير، خصوصا، اذا ما أقرنت بمعادلة سلاح جديد دخل في آليات الصراع العربي – الاسرائيلي، وهي معادلة صواريخ أرض – أرض.
ووفقا لذلك، برزت معادلة جديدة في الصراع قوامها «الحرب من فوق مقابل الحرب من تحت»، وهذه المعادلة التي أنتجتها حرب تموز / يوليو في العام2006 ، عنت أن مرحلة ما بعد حرب الخامس من جزيران / يونيو في العام ,1967 شهدت تعديلا في توازن القوى وكذلك في النظريات والمفاهيم التي تخاض الحروب تحت ظلالها، فاسرائيل التي أتمت حرب الايام الستة بتدمير شبه كامل للبنى العسكرية العربية من خلال القصف الجوي، وتحديدا بما يرتبط بمصر، لم تحقق اغراضها في حرب تموز/ يوليو اللبنانية بما يتصل بتفكيك الهياكل العسكرية للمقاومة، بل برزت معادلة صواريخ أرض – أرض، لتضع حدا للتفوق العسكري الاسرائيلي، وتعمل على الإستعاضة عنه، باجتياح الصواريخ اللبنانية للعمق الديموغرافي والإستراتيجي الإسرائيلي، لاول مرة منذ العام1948.
إذاً، كرست معادلة الصواريخ، مشهدا استراتيجيا جديدا في الصراع مع اسرائيل، فيما مشهد آخر لا يقل أهمية، تمثل هذه المرة بالمزج بين فنون المدرسة الكلاسيكية في الحرب وفنون مدرسة حرب العصابات.
هذا المزج، أكثر ما تجلى في مواجهات جرت في مدينة بنت جبيل وبلدات عيتا الشعب ومارون الراس، في جنوب لبنان واذا كانت تقاليد حرب العصابات، قامت على قاعدة «الكر والفر»، وعدم الثبات في ميدان المعركة، وتلك هي المبادئ والخلاصات التي انتهت إليها حرب فيتنام في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وما غدا مألوفا بعد ذلك من حروب المقاومات والإحتلالات، فإن الوقائع الميدانية والمواجهات التي شهدتها مناطق عدة في الجنوب اللبناني، كشفت عن مزيج يقرب المسافات بين المدرستين الكلاسيكية وحرب العصابات، ذلك ان «الإلتحام المتقارب» على مدى أسابيع وفي مناطق عدة، لم يكن مألوفا على الإطلاق في مبادئ «حرب العصابات» التي خاضتها المقاومة الاسلامية الى ما قبل تاريخه، ولا المقاومات الاخرى، عالميا، لا على مستوى رقعة الميدان، ولا على مستوى المساحة الزمنية الطويلة.
وبعد هذا المبدأ الجديد في حرب تموز/ يوليو 2006، وهو نظري ميداني، يأتي الحديث، عن مبدأ «الحرب على أرض الغير»، وهو مبدأ اعتمدته اسرائيل منذ قيامها في العام 1948 ولعل مراجعة موجزة لا بد منها:
قبيل اقامة اسرائيل، تمحورت شبكة الأهداف، حول الإستيلاء على الأرض، وتبع ذلك، بعد صدور قرار التقسيم الرقم ,181 التوسع الاسرائيلي باتجاه أراض جديدة تتجاوز الاراضي المخصصة للدولة العبرية في القرار الآنف الذكر، وعلى هذه القاعدة، راحت العمليات العسكرية الاسرائيلية تبني مرتكزاتها على القرى والبلدات العربية الخاصة بـ«الدولة الفلسطينية (العربية)» المفترضة، ما أدى عمليا الى قضم آلاف الكيلومترات الجديدة، في وقت كان فيه «العمق الاسرائيلي»، يتشكل على قاعدة إبعاده عن أرض المواجهة والحرب.
هذا المبدأ في حماية العمق الاستراتيجي وفي خوض الحروب على أرض الغير، أخذ تجلياته الواضحة في العدوان الثلاثي على مصر في العام ,1956 ،وكرّس وجهه الصارخ في حرب الخامس من حزيران/ يونيو وعرف وجوها أخرى له في اجتياحي العام 1978 و 1982 للبنان، لكن ما أنتجته حرب العام 2006، يكمن في القدرة على نقل الحرب الى داخل اسرائيل، أي الى عمقها الإستراتيجي، من خلال كثافة هطول الصواريخ على العمق المذكور ونزوح مئات الآلاف الإسرائيليين عن مدنهم وقراهم، وهذا عنى أن طارئا قد استجد على مبدأ «الحرب على أرض الغير»، وهو ما جعل إسرائيل تعيد النظر في حروبها المستقبلية ، وتجلى ذلك ، في حروبها العدوانية اللاحقة على قطاع غزة .
بطبيعة الحال، تستبع مراجعة مبدأ «الحرب على أرض الغير»، مراجعة لا تقل أهمية، عمادها الحرب الخاطفة، وقوة الردع، وكلاهما، لم يكن بمقدور اسرائيل تطبيقهما في حرب تموز/ يوليو ، والتطرق إليهما في تحقيقات لجنة «فينو غراد»، كان واضح الحضور، وليس من قبيل المبالغة حيال ذلك، القول، بأن الحرب الخاطفة الإسرائيلية ، أسسقطها اللبنانيون ، كما أن قوة الردع، أو الإمساك بزمامها والتحكم بها، أمر أدخله المقاومون اللبنانيون في سياق من التساؤلات والخيبات الاسرائيلية الجاعلة من مطلق القوة مثلما كانت عليه قبل حرب تموز/ يوليو ، على بساط من الشك الناتج عن إلزامية ان تؤخذ بالإعتبار قوة ردع فعل الطرف الآخر (المقاومة الإسلامية اللبنانية أو غيرها)، وكل ذلك لا يتيح لترسانة الأسلحة الاسرائيلية ان تقرر سلفا نتائج الحرب، وهو المنطق الذي كان عرف سيادة يقينية بعد حرب الأيام الستة ، التي رأى الاسرائيليون فيها، تحقيقا لنبؤات التوراة.
انطلاقا من ذلك، يمكن القول إن نظريات ومبادئ ومفاهيم، أنتجتها حرب تموز يوليو اللبنانية في العام 2006، أو عملت على تغييرها او دفعتها الى الخروج من الثوابت الى حقول التساؤل، وأهم ما يقال في ذلك:
1 مراجعة «مفهوم الحرب من فوق» (وهو مفهوم أنتجته المانيا النازية في الحرب العالمية الثانية).
2 دخول مفهوم «الحرب من تحت» الى آليات الصراع العربي – الاسرائيلي.
3 المزج بين مفهومي الحرب الكلاسيكية وحرب العصابات.
4 مراجعة مفهوم الحرب الخاطفة إقليميا (مفهوم شرعه أدولف هتلر واحتل على أساسه بولندا وفرنسا).
5 إقفال الباب على حصرية اسرائيل لشن الحرب على أرض الغير.
6 إعادة النظر بمفهوم إسرائيل لقوة الردع.
ان كل ذلك، احدث انقلابا كبيرا في نظرية «الأمن القومي الاسرائيلي»، فهذه النظرية التي قامت بأجزاء كبيرة منها على العناصر الواردة قبل قليل، تعرضت لاختلال غير قابل للجدال، وهو الأمر الذي يفسر أبعاد انشاء لجنة «فينوغراد»، اذ التقط الاسرائيليون سريعا المستجدات على مستوى الخلل الطارئ على هذه النظرية، فحماية العمق الاستراتيجي الاسرائيلي الذي يشكل أساس استمرار الدولة اليهودية، وتكونت من حوله نظرية الأمن القومي بمجملها، دخل عملانيا في دائرة النار، ما يوجب المراجعة. وفي المقابل، فإن المعادلات الجديدة التي أنتجتها حرب تموز/ يوليو ، تبقى بحاجة الى فيض من القراءات للوقوف على المنعطفات التي أنتجتها هذه الحرب، والمكاسب الاستراتيجية منها، لبنانيا، وعربيا، بوجه خاص.