وهم التسوية.. خياران أمام السلطة الفلسطينية
موقع قناة الميادين-
شرحبيل الغريب:
علينا أن نقف أمام مجريات الواقع بكلّ حكمة وتجرد، وتسجيل إجابات شافية عن أسئلة ملحة باتت مشروعة.
منذ مجيء الرئيس الأميركي جو بايدن، لم تتوقَّف مساعي السلطة الفلسطينية لخَطبِ ود الإدارة الأميركية الجديدة، في محاولات واضحة وحثيثة لإحياء مسار التّسوية والمفاوضات وعودة الامتيازات التي سلبتها إياها إدارة الرئيس الأميركي السابقة دونالد ترامب، وما شهدته ولايته من قطعٍ كاملٍ للمساعدات الأميركيّة، وتقويض كيان السلطة سياسياً إلى درجة كبيرة، وإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية، والاعتراف بالقدس عاصمة لــ”إسرائيل”، ونقل السفارة الأميركية فيها، وتطبيق بنودٍ من “صفقة القرن”.
سلوك السلطة الفلسطينية منذ فوز الرئيس بايدن في الانتخابات الأميركية يشي بأنها شعرت بجو سياسي جديد ينسجم مع توجهاتها، في وقت لم يتغير الموقف السياسي الفلسطيني الرسمي أو يتبدل بعد، كما يشي بأن ما يدور في الأروقة الفلسطينية لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية هو الرهان من جديد على العودة إلى المسار ذاته الّذي توقّف منذ نيسان/أبريل 2014. أقصد هنا “مسار التسوية والمفاوضات وإحياء عملية سلام جديدة”، وهذا ما أكدته وكشفت عنه مؤخراً القناة العبرية الـ”12″، التي قالت إنَّ هناك مطالب واضحة من الرئيس الفلسطيني محمود عباس للعودة إلى المفاوضات مع “إسرائيل” بوساطة أميركية.
سبق هذا التسريب ما أشارت إليه صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية بتقديم السلطة الفلسطينية خطة تتضمّن جملة مقترحات ورؤية تحسين أوضاعها، بهدف تعزيز مكانتها وكيانها في الضفة الغربية المحتلة، تكون مقدمة لمسار سياسي لمفاوضات مع “إسرائيل”.
كما تشمل خطة المقترحات استعادة مكانة السلطة الفلسطينية دبلوماسياً، وإعادة فتح المؤسسات الفلسطينية في القدس الشرقية، وتعليق البناء في مستوطنات الضفة الغربية، إذ أفادت الصحيفة بأن الخطة تضم 30 مقترحاً هدفها الأساسي المضي قدماً في العملية السياسية مع “إسرائيل” خلال فترة ولاية الرئيس جو بايدن.
ثمة تساؤلات مهمة تطرح نفسها مع مثل هذه التحركات العملية للسلطة الفلسطينية: هل تقديم مثل هذه المقترحات يمكن أن يعيد شيئاً من الحقوق الفلسطينية؟ وهل ما زال خيار التسوية والمفاوضات هو الرهان الممكن الوحيد بعد كثير من المتغيرات التي حصلت؟ وهل يحتل الملف الفلسطيني فعلاً أولوية لدى إدارة الرئيس بايدن؟ وهل يستطيع بايدن إصلاح ما أفسده ترامب؟ أين موقع المشروع الوطني الفلسطيني اليوم في أجندة السلطة الفلسطينية أم أن الهدف الحقيقي هو تحسين أوضاع وامتيازات لكيان السلطة الفلسطينية وكينونتها، وإعادة إحياء مسار ثبت فشله لأكثر من ربع قرن من الزمان؟
علينا أن نقف أمام مجريات الواقع بكلّ حكمة وتجرد، وتسجيل إجابات شافية عن أسئلة ملحة باتت مشروعة، بهدف توضيح الحقائق بعد سنوات طويلة من حالة التيه السياسي الفلسطيني. المدقق في بنود الخطة التي كُشف عنها مؤخراً يدرك أن أكثر من 90% منها عبارة عن مطالب تحسين أوضاع وامتيازات لا تعبر عن تطلعات منظومة تبحث عن قضية سياسية ومشروع وطني فلسطيني تحرري هدفه إنهاء الاحتلال، بل نحن أمام تطلعات منظومة مصالح تبحث عن حالة تعايش مع “دولة” احتلال، سرقت الأرض، وزوّرت الهوية والتاريخ، ومارست أبشع جرائم القتل والإبادة بحق الإنسان والحجر والشجر.
خلال 28 عاماً، لم تفكر قيادة السلطة الفلسطينيّة في أن تجري مراجعات حقيقية في سلوكها السياسي، ولم تعد تُقر أن هذا الإطار الذي ولد باتفاقية سياسية وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية لم يعد يحمل مشروعاً وطنياً حقيقياً، بل تحولت إلى منظومة حامية لمشروع وظيفي يضمن الأمن والأمان لـ”دولة” الاحتلال، تؤمن بعض الامتيازات والمصالح، غير آبهة بالحالة الكارثية التي وصلت إليها القضية الفلسطينية.
لقد نجحت “إسرائيل” بدرجة كبيرة باستخدام السلطة الفلسطينية طيلة هذه السنوات كغطاء لسرقة ما تبقى من الأرض الفلسطينية، فأربع سنوات أخيرة من عهد إدارة ترامب، بما فيها من أحداث، كانت كافية لصانع القرار الفلسطيني، حتى يدرك حجم الكارثة التي شكلتها السلطة كغطاء طيلة سنوات ثبَّتَ الاحتلال الإسرائيلي فيها أركانه، فسيطر على القدس بشكل كامل، وسرق الضفة الغربية عبر سياسة التمدد الاستيطاني، وبنى معالم جديدة على الأرض أصبحت تقف عائقاً حقيقياً أمام إمكانية الحديث عن أي مسار تفاوضي أو حلول سياسية تذكر.
لم يحتلّ الملف الفلسطيني أولوية على أجندة إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، لانشغالها بملفات ذات أهمية أكبر، كالملف النووي الإيراني، حتى مرحلة ما قبل معركة “سيف القدس” الأخيرة التي سجلت فيها المقاومة الفلسطينية انتصاراً استراتيجياً كبيراً على “دولة” الاحتلال، وفرضت معادلات جديدة جعلت الإدارة الأميركية تتحرك عبر قنوات اتصال سريعة ودول كبرى في المنطقة العربية للعمل على وقف إطلاق نار، ما جعل صانع القرار الأميركي يعيد التفكير في أولويات ملفات الشرق الأوسط، وإعطاء الضوء الأخضر لوفد أمني وسياسي رفيع المستوى من واشنطن بالتوجه إلى المنطقة، بهدف إحياء ملف مشروع التسوية والمفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية المُجمد منذ سنوات طويلة، وهو ما كشفت عنه تسريبات عربية رفيعة المستوى.
ليس مهماً إلى حد كبير هذا التغيير المفاجئ الذي طرأ في المواقف والأولويات للإدارة الأميركية ومحاولة إحياء هذا المسار، لكن الأهم: على أي قاعدة يمكن الحديث في أي مسار سياسي؟ ووفق أي قاعدة سينطلق؟ هل تستطيع إدارة بايدن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء بتغيير وقائع ثبتتها سياسات بنيامين نتنياهو؟ هل يستطيع بايدن أن يصلح ما أفسده ترامب.
علينا أن نتوقف أمام حقائق لا يستطيع أحد إنكارها، تتمثل في وقائع ثبتت جلية واضحة لأكثر من عقد من الزمان، وهي أن:
– السلطة الفلسطينية خُدعت على مدار سنوات طويلة مضت ممن كانت تسميه آنذاك “صديق السلام” إيهود أولمرت، وعاشت سنوات أخرى مع من كانت تطلق عليه “عدو السلام” نتنياهو، والرهان اليوم على نفتالي بينيت هو خداع جديد ليس إلا، فمواقفه تجاه الفلسطينيين واضحة، وتاريخه أسود مليء بالجرائم وارتكاب المجازر والتنكر للحقوق الفلسطينية، وبالتالي لن يقدم بينيت الّذي تضم حكومته أحزاباً متطرّفة أي تنازلات جوهرية للسلطة الفلسطينية.
– في تقديري، هناك تهيئة أميركية واضحة لإحياء مسار التسوية، لكنها لن تكون راعية بشكل مباشر لها، واحتمالية أن تدعم دولاً عربية ذات وزن وتأثير في المنطقة للإشراف على هذا الملف كبيرة، في ظل المشاورات التي تجريها مع مصر والأردن في هذا الصدد.
– من الخطأ الفادح المراهنة على إدارة الرئيس بايدن، لأنها لم تمتلك عصا سحرية، ولا تستطيع إجبار بينيت على البدء بمفاوضات مقابل تجميد الاستيطان أو فرض حلول سريعة أو الدفاع عن الحقوق الفلسطينية، كالقدس واللاجئين وتفكيك المستوطنات في الضفة الغربية. وكل من يوهم نفسه بغير ذلك يكون مخطئاً ولاهثاً وراء سراب.
– أي مسار سياسي يمكن أن يُستأنف قريباً سيكون الهدف المقصود منه هو اللقاءات العبثية، ومضيعة المزيد من الوقت والحقوق الفلسطينية، وإعطاء حكومة بينيت غطاء لمواصلة مخططات الاستيطان وبسط الهيمنة الإسرائيلية على كامل الضفة الغربية بعد سيطرة “إسرائيل” على القدس بشكل كامل، وبالتالي سيشكل هذا الأمر خداعاً جديداً للسلطة الفلسطينية وتوفير غطاء لمزيد من شرعنة الاحتلال وتنفيذ مخططاته بحق الأرض الهوية والإنسان الفلسطيني وترسيخ حقائق لا تخدم إلا المشروع الصهيوني على أرض فلسطين.
– أي حراك تفاوضي جديد لن يكون هدفه إلا فرض استحقاقات أمنية والمزيد من حماية أمن المستوطنين واختزال ما تبقى من اسم السلطة الفلسطينية، إلا لمزيد من تعزيز التنسيق الأمني وملاحقة المقاومة واستئصال أي بذور لها في الضفة الغربية، لإدراك “إسرائيل” أن جوهر الصراع هو ساحة الضفة الغربية والقدس.
– حل الدولتين الذي من المتوقع أن يعاد تسويقه في أي مسار سياسي جديد لم يعد قابلاً للتطبيق بشكل مطلق، في ضوء الوقائع الجديدة الذي فرضها الاحتلال على الأرض، أبرزها سن قانون “يهودية الدولة” الذي يحظر بشكل مطلق على الفلسطيني العودة إلى أرضه ووطنه، ناهيك بسمة التطرف والإرهاب التي تسيطر على تركيبة “دولة” الاحتلال على صعيد المجتمع والقيادة الإسرائيلية، وبالتالي إن أي تساوق فلسطيني جديد مع هذا التوجه ما هو إلا سياسة تطويع جديدة بشروط إسرائيلية أمام حالة الضعف وعدم امتلاك المفاوض الفلسطيني أوراق قوة يفاوض فيها “إسرائيل”.
– ربما تكون الحقيقة مرة وفاتورتها كبيرة، وإن تطلب لَعقُها، فليكن ذلك لأجل شعب ضحى، وقضية عادلة أثبت أصحابها أنهم يرفضون أي مسار ينتقص من حقوقهم تحت أي ظرف كان، وبالتالي إن المسار الذي يتوجب على السلطة الفلسطينية سلوكه هو القيام بمراجعة شاملة لتوجهات جديدة تخدم القضية الفلسطينية وتعيد الاعتبار لها، لا لسيناريوهات فاشلة لم تجنِ إلا صفراً كبيراً، بل ووفرت غطاءً لسرقة المزيد من الأرض وتهويد المقدسات.
– ما يتوجّب على السلطة الفلسطينية فعله اليوم هو إعلان الفشل الواضح والصريح لمسار التسوية “أوسلو”، التي لم تقدم للشعب الفلسطيني سوى سلطة هزيلة لا تتمتع بأي من الحقوق، ولا تملك أي سيادة أو قرار حتى لذاتها، والتحرر من هذا المسار بأي ثمن، وعدم الانجرار أو اللهاث وراء أي محاولات أو حراك لإحياء مسار التسوية الذي ثبت فشله وأضفى شرعية لجرائم الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني تحت شعارات السلام والمفاوضات.
– الإقرار الصريح بأنَّ أوسلو كانت سبباً في سلب المزيد من الأراضي الفلسطينية، وكرَّست ورسّخت واقعاً احتلالياً ساعد في تهويد القدس وضاعف الاستيطان، وهو ما أظهر عجز السلطة الفلسطينية في التصدي لسياسة الاعتقال والتهجير والحصار والعدوان الإسرائيلية.
– الإقرار أن الأعوام الـ28 التي مضت كانت كافية لأن تكون درساً للرهان على خيارات الوهم والسراب والفشل، والعمل بنهج جديد قائم على كشف وجه الاحتلال القبيح بكل السبل والوسائل، وإعادة التفكير في جوهر القضية الفلسطينية والمتغيرات التي استجدت طيلة سنوات مضت كان فيها الكثير لمصلحة القضية الفلسطينية.
– وقف التنسيق الأمني والكفّ عن ملاحقة عناصر المقاومة واعتقالهم، واعتبار خيار المقاومة بشقيه الشعبي والمسلح بمثابة رصيد وعنصر قوة يوظف للرد على جرائم الاحتلال بقوة، وتدفيع الاحتلال ثمن احتلاله للأرض الفلسطينية.
– لقد بات من الضرورة ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني على أسس جديدة وبرنامج وطني مقاوم فيه تعدد الخيارات، باستجماع كل عناصر القوة وتوظيفها واستخلاص العبر من المخزون الاستراتيجي للشعب الفلسطيني، والذي ظهر بشكل قوي وواضح قادر على فرض كلمته خلال معركة “سيف القدس” الأخيرة في كل الأراضي الفلسطينية، ناهيك بمعادلات القوة والردع للمقاومة الفلسطينية، واعتبار منجزات المقاومة في غزة رافعة للعمل الوطني.
– السلطة الفلسطينية مطالبة اليوم بالإقرار واليقين بأن “إسرائيل” لن تعطي الشعب الفلسطيني أكثر من كيان وظيفي تابع لها مرتبط بالتزامات أمنية وظيفية، وأنه يتوجب العمل على إنهاء دور السلطة الفلسطينية كسلطة وظيفية تخدم أمن الاحتلال، فالمرحلة باتت تضع السلطة أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما سلطة فلسطينية وطنية حقيقية قائمة على برنامج وطني فلسطيني مقاوم، وإما أن تحل السلطة نفسها، ولتتحمل “إسرائيل” مسؤولياتها في مواجهة شعب ومقاومة فلسطينية ممتدة بدءاً من الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1948، مروراً بالضفة الغربية والقدس، وصولاً إلى مقاومة مسلحة قوية في قطاع غزة. وفي اعتقادي، هذه الطريقة الأصوب التي سلكتها كل الشعوب المحتلة لتحرير أرضها ومقدساتها.