وثائق أميركية سرّية بشأن النووي الإسرائيلي
نيكسون وغولدا مئير في البيت الأبيض في العام 1969 (عن “الإنترنت”)
صحيفة السفير اللبنانية ـ
حلمي موسى:
أزالت الإدارة الأميركية هذا الأسبوع السرية عن وثائق أميركية بالغة الأهمية، توثق تطور الاتصالات مع إسرائيل حول الخيار النووي العسكري.
وكانت الإدارات الأميركية السابقة حالت دون نشر أية معلومات رسمية حول هذه القضية، رغم كثرة الطلبات بشأنها.
وتعود غالبية الوثائق إلى عهد الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، الذي تبلورت في عهده سياسة غض الطرف عن المشروع النووي الإسرائيلي. وتبدأ الوثائق بفترة التحضير لزيارة رئيسة الحكومة الإسرائيلية غولدا مئير إلى البيت الأبيض، في أيلول العام 1969، حين سلّمت أميركا بالرفض الإسرائيلي المثلث: رفض التوقيع على معاهدة حظر انتشار السلاح النووي، ورفض القبول بمراقبة أميركية لمفاعل ديمونا، ورفض الربط بين تسلّم طائرات حربية والتنازل عن السلاح النووي أو الصواريخ أرض – أرض الاستراتيجية من طراز “أريحا” والقادرة على ضرب العواصم العربية في القاهرة ودمشق وعمان وبيروت.
ويشرح المعلق الأمني في صحيفة “هآرتس” أمير أورون، من خلال الوثائق الجديدة، كيف تراجع الوزراء والمستشارون الذين صاغوا الوثائق الأميركية خطوة بعد خطوة عن مشاريع منع إسرائيل من امتلاك سلاح نووي، وصولاً إلى الإقرار في محادثة داخلية بين نيكسون وغولدا مئير ـ لا تزال سرية – بإسرائيل كدولة حافّة نووية.
وعملياً تتحدث الوثائق الأميركية في تلك المرحلة عن الاعتراف بإسرائيل دولة حافة مزدوجة، يمكنها الانتقال من “الخيار التقني” إلى “امتلاك السلاح النووي”. وكانت الحافة الأولى هي تجميع “مكونات متفجرة” كرأس حربي، ونصبها في المنظومة العملياتية للجيش الإسرائيلي. والحافة الثانية هي التأكيد العلني للشبهات في العالم والدول العربية بشأن امتلاك سلاح نووي عن طريق النشر أو إجراء تجربة نووية.
وقد اقترحت الأوساط الخاضعة لنيكسون عليه عشية محادثته مع غولدا مئير، ضبط النفس تجاه المشروع النووي الإسرائيلي والتخلي عن مساعي منع إسرائيل من التزوّد بصواريخ طورت في مصانع “مارسيل داسو” الفرنسية، ويبلغ مداها 500 كيلومتر وبرأس متفجر بوزن طن، إذا تمّ الاتفاق مع غولدا مئير على هذه النقاط. وهكذا فإن سياسة الغموض النووي الإسرائيلي الرامية إلى الردع لا تنكر وجود أي قدرات، لكنها تصرّ على عدم استخدام تعبير “الخيار”، وهي محصلة لقاء نيكسون مع غولدا مئير هي ألعوبة إسرائيلية أصيلة.
وقد اتخذت الإدارة الأميركية قرار إزالة السرية عن هذه الوثائق في آذار الماضي، لكنها كشفت فقط في الأسبوع الماضي. وكما سلف فإن غالبية الوثائق تعود إلى العامين 1968 و1969، حيث كانت نهاية عهد الرئيس ليندون جونسون ورئيس الحكومة الإسرائيلي ليفي أشكول وبدء عهد نيكسون وغولدا مئير.
ويقول أمير أورون إن هذه الوثائق فيها عبر للحاضر بينها: الوزن الحاسم للعلاقات الشخصية بين الرئيس الأميركي ورئيس الحكومة الإسرائيلية، والعلاقة التبادلية بين العملية السياسية لـ”الأرض مقابل السلام”، والضمانة الأميركية المحتملة لأمن إسرائيل في زمن السلام، وتزويد إسرائيل بالسلاح ووضعها النووي، وقدرة دولة مثل إيران على التقدم تدريجياً لامتلاك سلاح نووي والبقاء على حافة تحويل القدرة إلى منظومة عسكرية عملياتية.
ويعتبر أورون أن أهم الوثائق التي نشرت هي “nssm 40” التي صاغها مستشار الأمن القومي في حينه هنري كيسنجر، وكانت تحت عنوان “مذكرة دراسة أمن قومي” محدودة الانتشار، لم تصل إلا إلى وزيري الخارجية والدفاع ورئيس المخابرات المركزية ورئيس الأركان المشتركة للجيوش الأميركية. وقد فوض نيكسون كيسنجر بإعداد طاقم خبراء برئاسة مساعد وزير الخارجية جوزيف سيسكو، فضلاً عن طاقم القيادة. وطلب نيكسون من الطاقمين تقديم تقدير استخباري عن مدى تقدم إسرائيل نحو السلاح النووي، واقتراح بدائل لسياسات تجاه إسرائيل في هذا الشأن في ظل تعهد إدارة جونسون بتقديم 50 طائرة “فانتوم” إلى إسرائيل، والعملية السياسية بإدارة وليم روجرز، وتطلع الإدارة الأميركية إلى إنشاء نظام عالمي لمنع انتشار السلاح النووي. في تلك الفترة كانت تدور حرب استنزاف على جبهة قناة السويس بين إسرائيل ومصر.
ويقول أورون إن الفصول الأشد إثارة، في 107 صفحات تبحث في الخلاف داخل الإدارة الأميركية في مسألة العلاقات تجاه إسرائيل، حول “الإقناع أم الضغط” وسيناريوهات “الحوادث وردود الفعل”. ويعتبر أن هذه الوثائق درس في السياسة التنظيمية، حيث كان موقف وزارة الخارجية معتدلاً وعارضت التهديدات والعقوبات، خشية تعطيل خطوات روجرز السياسية إذا تصلب الموقف الإسرائيلي. أما شعبتا البنتاغون، المدنية والعسكرية، فكانتا أشد تصلباً.
وقد تبنت وزارة الدفاع توصيات مساعد وزير الدفاع باستخدام تزويد إسرائيل بطائرات “فانتوم” كرافعة ضغط لنيل تنازلات بعيدة المدى من إسرائيل على الصعيد النووي. لكن نظيره في الخارجية مساعد روجرز، أليوت ريتشاردسون، فكان شريكاً في التحفظ تجاه إسرائيل، لكن وجود سيسكو، من الشعبة الاستراتيجية في الوزارة، لطف الموقف تجاه إسرائيل.
ودارت الخلافات في الإدارة حول التقدير الاستخباري بشأن مدى تقدم إسرائيل نحو السلاح النووي. فالخارجية، اعتماداً على تقديرات المخابرات المركزية، مالت للاستهانة بالدلائل واعتبرتها ظرفية. ورأت أن “حزب العمل” الإسرائيلي الحاكم “يريد تجنب الثمن الداخلي والعالمي للخطوة النهائية، لكن بسبب العزم الأكيد على حماية الشعب اليهودي، يحتمل أن إسرائيل ترغب في امتلاك سلاح يوم القيامة، في حال برز خطر كبير على أمنها”. لكن وزارة الدفاع التي استندت إلى جهازها الاستخباري العسكري كانت أشد حزماً في تقديرها بأن إسرائيل باتت تمتلك سلاحاً نووياً، أو أنها ستمتلكه خلال شهور.
وقد لعب اسحق رابين، الذي قاد الجيش في حرب العام 1967 وأصبح بعدها سفيراً لحكومته في واشنطن، الجهد الإسرائيلي في أميركا. وقد نقل مسؤولون أميركيون عنه عدم إنكاره تقدم إسرائيل نحو السلاح النووي، وقوله إن “إسرائيل ترغب بالسلاح النووي للردع، لكن إذا فشل الردع وخطر الاحتلال حام عليها، لتدمير العرب في حرب ياجوج وماجوج نووية”. ولاحظ الأميركيون المفارقة في هذا القول، لأن الردع يجعل إسرائيل بحاجة لقوة نووية علنية، بعيداً عن الإصابة، أي امتلاك القدرة على توجيه الضربة الثانية، ولذلك فإنها تبني منصات الإطلاق الحصينة لصواريخ “أريحا”. وعموماً رأوا أن الردع النووي ممكن بين روسيا وأميركا، لكنه ليس قابلاً للتطبيق في الشرق الأوسط.
وقد خشي سيسكو من أن التهديد بمنع تزويد إسرائيل بالسلاح سيدفعها للعيش تحت ضغط عسكري ونفسي للإسراع في امتلاك سلاح متطور، لذلك رأى أنه من الأفضل ترك خطر محتمل مستقبلاً والتسليم بوضع تكون فيه إسرائيل دولة حافة نووية لا تقوم بتجميع المكونات المتفجرة ولا تجسد خيار إنتاج قنابل نووية. وكان العسكريون الأميركيون يرون، بنسبة 75 في المئة، أن التهديد بعدم تزويد إسرائيل بالطائرات سيردعها ويمنع مواجهة بينها وبين أميركا.
عموما رأت إدارة نيكسون في السلاح النووي الإسرائيلي قيمة ردعية محدودة، وأن ظهور السلاح النووي سيحث الدول العربية للسعي لامتلاك هذا السلاح خلال 10 سنوات. وكانت تخشى من عمليات انتحارية جوية عربية ضد مفاعل ديمونا.
وضمن كل هذه الاعتبارات قدّر مساعدو نيكسون أنه لا يمكن إجبار إسرائيل على التخلي عن مشاريع ضم القدرة النووية الى قدرات الجيش الإسرائيلي العملياتية خلال عام ونصف العام، في ظل غياب سلام تام مع العرب. وقالوا إنه لا يمكن لأميركا “أن تجبر الإسرائيليين على تدمير معطيات ومكونات، من دون الحديث عن الخبرة الفنية المتراكمة في العقول، ولا حتى عن القدرة القائمة على ارتجال سريع، فالهدف الإسرائيلي الأساسي هو وجود خيار لامتلاك قدرة نووية عسكرية عملياتية خلال وقت قصير”.
وبناء عليه كان الاستخلاص الأميركي هو أن أهون الشرور هو “إبقاء قدرة تقنية” لإنتاج سلاح نووي والتزود بوسائل حمله، أي الصواريخ. وقررت أميركا “احتمال” نشاطات إسرائيلية لا ترقى إلى التركيب الكامل لمنشأة نووية متفجرة. لقد كان الحساب الاستراتيجي مع اعتبارات حزبية مقنعاً. وهكذا ولدت سياسة الغموض النووي الإسرائيلية.