واشنطن باقية في المنطقة وتتمدد: حسابات النفط كثيرة
موقع قناة الميادين
زياد غصن
جاءت زيارة الرئيس الأميركي للمنطقة واجتماعاته لتؤكد أن معظم ما ذهب إليه السياسيون والمحللون في أعقاب الانسحاب الأميركي المفاجئ من أفغانستان كان خاطئاً أو مبنياً على الرغبات أكثر من الحقائق والمصالح العميقة، فالولايات المتحدة باقية في المنطقة، ولن تنسحب منها باتجاه آسيا بغية التفرغ لمواجهة الصين، كما كان البعض يرددون منذ فترة زمنية ليست قليلة، وهذا درس كان يجب أن نفهمه جميعاً عندما تمكّنت القوات السورية، بدعم من حلفائها، من تحرير أو استعادة مناطق واسعة من البلاد في العامين 2017 و2018.
آنذاك، اعتبر البعض أنّ واشنطن هُزمت في سوريا مع خسارة فصائلها المسلحة مناطق نفوذها في أنحاء مختلفة من البلاد، بل هناك من وصل إلى قناعة مفادها أنَّ الإدارة الأميركية فوّضت روسيا بالملف السوري، لكن ما حدث لاحقاً أن واشنطن سارعت إلى مقاربة التطورات الميدانية على الأرض السورية باستراتيجية جديدة تقوم على محورين أساسيين:
المحور الأول هو تثبيت قواعد عسكرية لها تحول دون استكمال الجيش السوري خطة زحفه، ولا سيما باتجاه المنطقة الشرقية الغنية بالثروات والموارد الطبيعية، وما يرتبط بتلك القواعد من تقديم دعم عسكري مباشر لميليشيا قسد وللعمليات العسكرية التركية في الأراضي السورية.
والمحور الآخر هو توسيع دائرة الحرب الاقتصادية لتشمل منع استثمار دمشق معابرها الحدودية في زيادة أفق انفتاحها الاقتصادي على الأسواق الخارجية، ومحاولة تقويض عمل قطاعات اقتصادية أساسية، كالطاقة والصناعة وإعادة الإعمار، عبر إقرار قانون “قيصر”.
ويبدو أنَّ البعض في قراءته للمشهد السياسي لم يميّز بين ثبات الأهداف الأميركية في المنطقة وتباين سياساتها واستراتيجياتها المتبعة لتحقيق تلك الأهداف، وهذا ربما ما يوضحه مثلاً الموقف الأميركي من الاتفاق النووي مع إيران، وتطور مستوى العلاقات مع دمشق، وخصوصاً منذ بداية عقد التسعينيات ولغاية تاريخه، والموقف من المشروع الكردي في كل من العراق وسوريا من جهة، والمشروع الكردي في تركيا من جهة ثانية.
3 عوامل أساسية
إلى جانب أمن “إسرائيل”، الذي لم تجرؤ إدارة أميركية منذ أربعينيات القرن الماضي على التهاون به، أو ما يرتبط به على الصعيد الإقليمي والدولي لجهة القوى الفاعلة والمؤثرة، من حكومات وأحزاب وحركات سياسية، وموقفها من الكيان الصهيوني، فإنَّ ملف الطاقة وما تملكه المنطقة من أوراق مؤثرة فيه لا يزال يشكل أحد أهم الملفات الموجهة لأولويات السياسة الخارجية الأميركية، وخصوصاً أن أزمة الطاقة العالمية التي بدأت ملامحها بالتشكل العام الماضي، ثم تسارعت أحداثها وفصولها بعد الحرب الأوكرانية، أكّدت مجدداً أهمية مصادر الطاقة التقليدية والاستثمار فيها وضمان تدفقها إلى الأسواق العالمية، وتحديداً الغربية منها.
لذلك، لم تكن أي إدارة أميركية في وارد التنازل عن المكاسب التي حققها الغرب بحروبه المدمرة، العسكرية منها والاقتصادية، بغية الظفر بمصادر الطاقة والتحكّم فيها، وهي حروب أتاحت له الانتقال تدريجياً من السيطرة عالمياً على تجارة النفط والغاز إلى السيطرة على منابعهما بأشكال مختلفة، لكن هل يبدو نفط المنطقة وغازها مؤثرين إلى درجة حرف سياسات دول عظمى؟
هناك 3 عوامل يمكن القول إنها تمنح قطاع النفط والغاز في المنطقة أهمية تبدو مختلفة عن غيرها من باقي مناطق العالم:
– العامل الأوّل يتعلّق بحجم الاحتياطات المؤكدة والإنتاج اليومي لبعض دول المنطقة من النفط والغاز، والمؤثر بشكل مباشر في حالة الأسواق العالمية وأسعار حوامل الطاقة فيها. وفي الحالات الطبيعية، فإنَّ الدول تحرص في سياستها الخارجية على بناء علاقات مع الدول المصدّرة لحوامل الطاقة والمواد الأولية والسلع المصنعة، بغية ضمان استقرار توريداتها من تلك المواد والسلع، فكيف الحال مع منطقة تشكل احتياطات دولها العربية فقط نحو 53.8% من إجمالي الاحتياطات النفطية العالمية، وفق بيانات المنظمة العربية للدول المصدرة للنفط “أوابك”.
ويصبح للأمر بعد مختلف مع تمركز هذه الاحتياطات في دول أساسية، كالمملكة العربية السعودية، التي تشكل احتياطاتها المؤكدة من النفط نحو 19.58% من إجمالي الاحتياطيات العالمية، والعراق نحو 11.11%، والإمارات 8%، والكويت 7.60%. وعلى الضفة الأخرى، تأتي إيران باحتياطات تقدر نسبتها بأكثر من 16% من إجمالي الاحتياطات العالمية.
ومع أن احتياطات المنطقة من الغاز ليست بذلك الثقل الذي تجسده الاحتياطات النفطية، إلا أنَّ هناك دولتين، هما إيران وقطر، تشكل احتياطاتهما الغازية مجتمعة نحو ربع احتياطات العالم، وفقاً لبيانات صندوق النقد العربي، في حين أن احتياطات السعودية تقدر نسبتها بنحو 4.10%، واحتياطات الإمارات 3.76%.
هذه المؤشرات تبدو كافية للعديد من دول العالم لإعادة ترتيب أوراق علاقاتها السياسية والاقتصادية مع دول المنطقة، في ظل عودة مصادر الطاقة التقليدية إلى الواجهة كمصدر أساسي لا يمكن الاستغناء عنه حتى الآن، والمتغيرات الدولية العاصفة، وفي مقدمتها الحرب الأوكرانية، التي أعادت تسليط الضوء على أهمية الطاقة وخطوط إمدادها وتدفقها من مناطق الإنتاج إلى الأسواق العالمية.
– العامل الثاني يتمثل بالإيرادات المتحققة لدول المنطقة جراء عمليات تصدير النفط الخام، والتي يقدرها صندوق النقد العربي بالأسعار الجارية بنحو 1.8 تريليون دولار خلال السنوات الخمس الممتدة من العام 2016 ولغاية العام 2020.
مثل هذا الرقم يسيل له لعاب العديد من الدول الباحثة عن جبهات عمل لشركاتها ومؤسساتها أو عن أسواق لسلعها ومنتجاتها، والأولوية ستكون بالطبع للدول التي تحقق أعلى نسبة من الإيرادات.
على سبيل المثال، بحسب بيانات الصندوق، إن قيمة صادرات السعودية من النفط قدرت بنحو 680 مليون دولار خلال السنوات الخمس المشار إليها سابقاً، والإمارات بنحو 262 مليار دولار، والعراق 268 مليار دولار، والكويت 225 مليار دولار، وعمان 81 مليار دولار. وإذا ما أضفنا صادرات إيران النفطية التي لا تزال مهمة رغم العقوبات الأميركية المفروضة عليها، فإن الرقم يتجاوز عتبة 2 تريليون دولار.
– العامل الثالث ذو طابع سياسي واقتصادي، وقوامه أنَّ هذه القوة النفطية والمالية الهائلة متمركزة في دول كان يرفض بعضها حتى وقت قريب إقامة علاقة سياسية واقتصادية مع “إسرائيل”، فيما لا يزال بعضها يرفض تحت أي شكل الاعتراف بوجود كيان غاصب لأرض فلسطين.
لذلك، حتى لو نجحت واشنطن في ترتيب اتفاقيات تطبيع بين “إسرائيل” وبعض الدول العربية النفطية المهمة على مدار العقود والسنوات الأخيرة، وتالياً تحييدها عن مجرى الصراع العربي الإسرائيلي، فإنَّ ما حدث في سبعينيات القرن الماضي لا يزال بمنزلة كابوس يقضّ مضجع الإدارات الأميركية المتعاقبة إلى اليوم.
آنذاك، لم تتردد الثورة الإسلامية الإيرانية في قطع علاقات إيران الشاه مع “إسرائيل”، وتحويل سفارة الكيان الصهيوني في طهران إلى سفارة لفلسطين. كما أنَّ رفض الرياض في الآونة الأخيرة زيادة إنتاجها النفطي لمنع أسعار النفط من الارتفاع أكثر على خلفية الحرب الأوكرانية، وما تبعه من برود في العلاقة بين الرياض وواشنطن، هو سبب آخر يدعو إلى الخوف من تداعياتٍ قد تكون كبيرة وخارجة عن السيطرة الأميركية.
على مستوى خط غاز
كل هذا يجعل الحضور الأميركي في المنطقة، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، وحتى ثقافياً، يبدو أمراً حتمياً تفرضه الحقائق والمصالح المتعددة للعقيدة الأميركية، كما هي حال هذا الحضور في أوروبا، وبشكل أقل في باقي القارات. وحتى انتظار صحوة ما، شعبية أو رسمية، فإنَّ مقاربة كل ما يتعلق بمستقبل المنطقة ودولها لا بد من أن يأخذ بعين الاعتبار أن الولايات المتحدة ستكون حاضرة دوماً. ولذلك، يجب عدم الاستهانة بالأمر.
وللتذكير فقط، على مستوى تشغيل خط الغاز العربي بين 4 دول عربية فقط، لا تزال بعض الحكومات العربية تنتظر الموافقة الأميركية الخطية للبدء بضخ الغاز إلى لبنان وإنقاذ قطاع الطاقة فيه!
وللإشارة هنا أيضاً، فإن هذا الحضور لم يغب منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وظهور القطبين الكبيرين، والحياة السياسية السائدة آنذاك وخفاياها تؤكد أن التدخل الأميركي في دول المنطقة وصل إلى مرحلة تنفيذ انقلابات عسكرية وتنصيب زعماء ورعاية أحزاب وجمعيات محلية، لكن في المقابل إن استمرار هذا الحضور اليوم لا يعني أن هناك نجاحاً ما يحققه المخطط الأميركي أو ضيقاً في فسحة الأمل بالتحرر منه.