هل يُحسن الشعب الإختيار الانتخابي؟
جريدة البناء اللبنانية-
علي بدر الدين:
في عام 1973 زار رئيس زائير آنذاك الجنرال موبوتو سيسي سيكو، موريتانيا، لمدة ثلاثة أيام، وخلال لقاءاته مع رئيس جمهوريتها في تلك الفترة مختار ولد دادة، لاحظ أنه لم يبدّل بدلته في الأيام الثلاثة التي قضاها في موريتانيا، وأيقن أنه لا يملك المال لشراء بدلات أنيقة تليق به كرئيس للجمهورية.
قبيل مغادرته مطار نواكشوط الموريتاني، سلّم موبوتو سكرتير ولد دادة شيكاً بقيمة 5 ملايين دولار أميركي، مع أقصوصة ورق فيها عناوين أشهر مصمّمي الأزياء العالمية، وقام الأخير بتسليم «الشيك» مع الورقة إلى الرئيس الذي سلّمه بدوره إلى وزير المالية في حكومته، لوضعه في خزينة الدولة الموريتانية، وأبلغه بأنّ هذا المبلغ سَيُنفَق على بناءِ وتجهيز مدرسةً لإعداد المعلمين والمعلمات في موريتانيا التي كانت تعاني من نقص شديد في هذا المجال بسبب الفقر.
بعد خمس سنوات، زار موبوتو المغرب ودعاه ولد دادة لزيارة موريتانيا فلبّى الدعوة، واستقبله رئيسها في المطار، وفي الطريق لاحظ الرئيس الزائيري عبارات باللغة الفرنسية مكتوبة على يافطات على طول الطريق من المطار إلى القصر الجمهوري في نواكشوط، «شكراً زائير» و «شكرا موبوتو على هديتكم»، تفاجأ موبوتو بما شاهده، وسأل نظيره الموريتاني عن أية هدية تشكرونني أنتم وشعبكم؟ تبسّم ولد دادة، وقال له: هديتكم لي لشراء بدلات أنيقة، فقد بنينا بها مدرسة لإعداد المعلمين، وكنا بحاجة إليها لمواجهة الفقر والجهل والأمية في بلدنا».
هل حصل أن تعاطت العهود والحكومات والمنظومات السياسية التي تعاقبت على الحكم والسلطة في لبنان منذ عقود، بمثل ما فعل الرئيس الموريتاني، الذي أنفق هدية مالية ضخمة له لشراء ملابس، على بناء مدرسة لإعداد المعلمين، ولتعليم الشعب الموريتاني الفقير جداً، وتطوير نظامه التربوي والتعليمي، ورفع كابوس الجهل والأمية وإنْ بحدود معينة وضمن الإمكانيات المادية المتاحة.
من حق اللبنانيين أن يسألوا، أين هي مليارات الدولارات وغيرها من العملات الصعبة ومن المساعدات العينية، التي قدّمتها دول «صديقة» وشقيقة، بعيدة وقريبة للبنان، بعد «الحروب الداخلية» والاعتداءات الصهيونية المتكرّرة، والتدمير الذي ألحقته بالبنى التحتية والمرافق العامة والخاصة، وآخرها انفجار مرفأ بيروت في آب 2020؟ هل تمّ وضعها في مكانها الصحيح في الخزينة العامة، لإنفاقها على إعادة بناء ما دمّرته الحروب والصراعات المسلحة والاعتداءات الصهيونية، والانفجارات وغيرها؟ بالتأكيد، لا بالأدلة والوقائع، لأنّ المنظومة السياسية، التي عبرت، أو التي لا تزال في قطار السلطة، وضعت يدها عليها وصادرتها وتحاصصتها، ولم يتمّ إنفاقها لا في زمانها ولا في مكانها الصحيح، بل ذهبت إلى جيوب مَن راكموا الثروات وهرّبوها إلى مصارف الخارج، ومعها أموال المودعين في المصارف، وحوّلوا لبنان من وطن الجمال و»درًة الشرق»، و»قطعة من السما» و»نيال من له فيه مرقد عنزة» الى بلدٍ منهارٍ ومفلسٍ ومديون، وشعبه فقيرٌ وتعيسٌ وجائعٌ، بلا كهرباء وماء ودواء واستشفاء وطحين ورغيف، يقف مذلولاً على محطات المحروقات، وأبواب الأفران والصيدليات والمصارف، والجمعيات الخيرية بحثاً عن «كرتونة إعاشة»،
أليست المنظومة السياسية والمالية، هي التي سرقت وأفسدت وتحاصصت وأفرغت الخزينة وجيوب الناس، وسطت على مدّخراتهم، هي المسؤولة عن طغيان الفقر والجوع والبطالة والقهر والذلّ والحرمان لهؤلاء الناس «الطيبين»، الذين كانوا يعملون وينتجون ويعيشون ولو بالحدّ الأدنى المطلوب، عيشة مقبولة وكريمة، حالت دون ان يمدّوا أيديهم لأحد، أو أن يهدروا كراماتهم، أو يقفوا صفوفاً للحصول على النذر القليل من المال والطعام؟ أليست هذه المنظومة هي المسؤولة عن كلّ هذا الحرمان الذي يعانيه بعض المواطنين ودفعِهم إلى تطبيق مقولة «الضرورات تبيح المحظورات» وتهدر الكرامات؟
ليس ممكناً ولا مطلوباً اليوم أو غداً أو بعد غدٍ تحميل الناس مسؤولية ما آلت إليه أوضاعهم الاقتصادية والمالية والاجتماعية والمعيشية والخدماتية، لأنّ وحدها المنظومة السياسية هي المسؤولة دون سواها، وهي التي شلت قدراتهم، وصادرت إراداتهم، وجعلت منهم مجرد رقمٍ حسابي في «أجنداتها الانتخابية، تستعمله «غب الطلب»، وعند الحاجة إلى «أصواتهم» الانتخابية. مسؤولية الناس أنهم لم يحسنوا المحافظة عليها وعلى أنفسهم، ولا على قيمتها وأهميتها، خاصة في مرحلة الانتخابات، لأنهم سلّموا كلّ أوراق قوّتهم، واستسلموا لمشيئة وإرادة وقرار، من زرع في أنفسهم اليأس والإحباط، ومن أقنعهم بأنه ولي أمرهم ونعمتهم والدرع الواقي لهم، في مواجهة الشريك في الوطن، والخصم في الحقوق، مع أنه يحق لهذا المسؤول أو ذاك، أن يلعب مع خصومه السياسيين من تحت الطاولة ومن فوقها والتقاسم والتحاصص معهم، لكلّ مقدرات الدولة ومواردها ومرافقها والأموال العامة والخاصة فيها، ولم يعد مفيداً ولا مثمراً، تحريض الشعب وتحفيزه على التمرّد على من لا يزال ممعناً في ظلمه وسلبه حقوقه، وإفقاره وتجويعه وإذلاله، لأنه كما يقول المثل «فالج لا تعالج»، وإذا أراد الخروج سالماً، من فقره وذله وجوعه ووجعه، أن «يقلّع شوكه بيده»، وأن يرفع صوته، ويقول لا بالفم الملآن لكلّ الظالمين المستبدّين العابثين بأمن الناس الغذائي والمعيشي والاجتماعي، لأنه باستمراره على صمته وارتهانه ورهانه وخياره، فإنّ الآتي سيكون أسوداً كلون الخرّوب…