هل يعدّ بوتين مفاجأة للغرب في أوكرانيا؟
صحيفة المنار الفلسطينية-
ليلى نقولا:
يحبس العالم أنفاسه قلقاً من حصول عمل عسكري غير متوقع في أوكرانيا، يؤدي إلى اندلاع صراع عسكري بين حلف الناتو وروسيا، وخاصة بعدما استمر الأميركيون في الإعلان (من دون دليل) أن بوتين على وشك شنّ هجوم برّي وغزو للأراضي الأوكرانية، وهو ما ينفيه الروس.
في كل الأحوال، وبغضّ النظر عن التقديرات الأميركية بقرب الهجوم، التي يشكك العديد من الخبراء في صحتها، والتي ينفيها الرئيس الأوكراني، معتبراً أن لا شيء على حدود بلاده يشي بقرب الغزو… بغضّ النظر عن تلك العوامل، لا يمكن التوقع أن الروس سوف يشنّون حرباً تقليدية على أوكرانيا، وسيقومون بغزو شبيه بحروب الحرب العالمية الثانية، بعدما أتقن الروس فنون القتال في “الحروب الهجينة”، واستخدموا المناطق الرمادية في النزاع، ما أعطاهم قوة إضافية لا تتوافر في الحروب التقليدية.
يختلف الباحثون على تعريف “الحرب الهجينة” التي تُسمّى أيضاً “الحرب غير الخطّية”، أو التدابير النشطة، أو الصراع في “المنطقة الرمادية”. لكن يمكن اختصار تلك التعريفات بالإشارة إلى أن الدولة التي تنخرط في “حرب هجينة” تقوم بزعزعة الاستقرار في الدولة المنوي التدخل فيها، وذلك عبر وسائل غير عسكرية، مثل دعم جماعات المعارضة المحلية، أو التحريض على القيام بالتظاهرات لإطاحة النظام، أو من خلال العمليات السيبرانية، وحملات التضليل والحروب النفسية الإعلامية، إضافة إلى الضغط الاقتصادي، إلخ. وقد تنطوي أساليب الحروب الهجينة على نشر سرّي لقوات عسكرية “غير محددة المعالم” أو مقاتلين غير نظاميين لاستخدامهم في تقويض الاستقرار حين تدعو الحاجة.
الفائدة الاستراتيجية التي تجنيها الدول عبر الحروب الهجينة تتلخّص في حجب تورط الدولة المعتدية. إن الغموض حول الجهة المنفذة، ووجود هامش من القدرة على الإنكار، يؤديان إلى عرقلة ردّ الفعل، وتفتيت المعارضة الداخلية أو الدولية، وذلك لعدم وجود الإثبات الدامغ، ولإعطاء مساحة كافية لتراجع الدول عن ردّ الفعل بسبب مصالحها القومية.
كيف يطبّق الروس هذه الاستراتيجية؟
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، استغلّ الغرب ضعف النفوذ الروسي على الساحة العالمية، فقام بتوسيع حلف الناتو، وتمدّد الحلف إلى المجال الحيوي لموسكو. ولم يكتفِ الأميركيون بذلك، بل شجّعوا الثورات في البلدان المحيطة بروسيا، وشجّعوا المعارضة الروسية على الثورة بهدف إطاحة بوتين. وبسبب قدراتهم المتواضعة، كتم الروس غيظهم خلال عقد التسعينيات من القرن العشرين، لكن الأمر تغيّر مع إعلان كل من جورجيا وأوكرانيا رغبتهما في الانضمام إلى حلف الناتو عام 2008.
كانت حرب جورجيا عام 2008 عاملاً حاسماً في رؤية الروس للتهديدات الاستراتيجية، وقرارهم تحديث جيشهم وترسانتهم العسكرية وزيادة موازنة الدفاع. كما طوّر الروس منذ ذلك الحين أدواتهم العسكرية التقليدية وغير التقليدية، ومنها حرب المعلومات، حتى بات الروس في مقدمة الدول التي تستخدم حرب المعلومات، والتي تُعدّ وسيلة رخيصة وفعّالة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية الروسية.
لقد فاجأت روسيا حلف الناتو ثلاث مرات في السابق، ولا يُستبعد أن يُعِدّ الروس مفاجأة جديدة اليوم في التوتر حول أوكرانيا:
1 – المفاجأة الأولى: جورجيا عام 2008
اعتقد الأميركيون بعدم قدرة الجيش الروسي على التوغّل عسكرياً في جورجيا. تدخّل الروس كقوات حفظ سلام، وللدفاع عن كل من أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية ضد “الاعتداء الجورجي” وانتهت الحرب بسرعة، وأعلن الإقليمان الجورجيان استقلالهما عن جورجيا، ولم يقم الناتو بأي ردّ.
2- المفاجأة الثانية: أوكرانيا 2014
مثّل انتشار الجيش الروسي بطريقة مموّهة – أو ما يسمّى الرجال الخضر- في شبه جزيرة القرم، والسيطرة عليها من دون قتال، مفاجأة للغرب والناتو، وحقّق ميزات استراتيجية للروس. أما في إقليمي الدونباس، فقد اندفع الآلاف من المقاتلين (المتطوعين) الروس لمساعدة “إخوانهم” (أوكرانيين من أصول روسية) الذين يتعرّضون “للإبادة” من قبل الجيش الأوكراني والقوات اليمينية النازية المتطرفة (بحسب الدعاية الروسية). لم يكن بالإمكان إثبات تورّط الجيش الروسي مباشرة في القتال، وحقّق الغموض قدرة لموسكو على التفلّت من ردود الفعل العالمية، فيما لو قام الجيش الروسي بغزو الأراضي الأوكرانية بطريقة تقليدية.
3- المفاجأة الثالثة: في سوريا
بالرغم من تهديد الأميركيين للروس بحرب استنزاف طويلة الأمد في سوريا شبيهة بالاستنزاف الذي قام به “المجاهدون” للجيش السوفياتي في أفغانستان، استخدمت روسيا قواتها المسلحة واستطاعت أن تصل إلى المياه الدافئة، وتضع قواعدها العسكرية على شواطئ البحر المتوسط.
4- المفاجأة الرابعة: أوكرانيا من جديد؟
يمكن أن تمثّل أوكرانيا، مرة أخرى اليوم، مفاجأة روسية للعالم، وذلك عبر تنفيذ أساليب الحرب الهجينة لا عبر القيام بحرب تقليدية وغزو برّي، كما يتنبّأ الأميركيون:
طوّرت روسيا استراتيجية خاصة بها في حرب المعلومات تقوم على مبدأ “السيطرة الانعكاسية”. وهي نظرية وُضعت خلال فترة وجود الاتحاد السوفياتي، وتمّ تطويرها من قبل الروس مؤخراً بفعل الفضاء الإلكتروني واستخدامه ضمن الحروب الجديدة. وتنص نظرية السيطرة الانعكاسية على أنه يمكن تحقيق السيطرة من خلال “استجابات انعكاسية غير واعية من المجموعة المستهدَفة”.
يبدأ تطبيق النظرية عبر تزويد المجموعة المستهدفة – بشكل منهجي- بالمعلومات المصمَّمة لاستفزاز ردود فعل يمكن التنبّؤ بها، ومرغوبة سياسياً واستراتيجياً بالنسبة إلى روسيا. لا يسعى هذا النهج الروسي إلى تقويض القوات المسلحة للخصم فحسب، بل أيضاً إلى التأثير في تصورات السكان المستهدَفين بطريقة تخدم المصالح الروسية. إن هذا التكتيك يتيح للكرملين استغلال الأفكار المسبّقة والاختلافات في الرأي بين أعدائه، ما يجعله قادراً على اختراق الجبهة المعارضة من دون ردّ فعل قوي.
من هنا، يمكن القول إن الآليات التي يمكن أن يعتمدها الروس ستكون مزيجاً من أدوات الحروب الهجينة التي ذكرت سابقاً، والتي تتّسم بالغموض وتسمح بتفلّت الروس من العقوبات الأميركية والأوروبية، إضافة إلى حرب المعلومات، وتطبيق مبدأ “السيطرة الانعكاسية”… أثبتت هذه الوسائل نجاعتها في العديد من المناطق، وعوّضت عن النقص في القدرات الروسية، وسمحت للروس بالتفلّت من ردّ الفعل، فلماذا يغامر بوتين بغزو برّي مكلف شبيه بغزوات الحرب العالمية الثانية؟