هل يضع “النفط مقابل الغذاء” سورية على عتبة جديدة؟
وكالة أنباء آسيا-
مالك ونوس:
فجأة، ومن دون مقدّمات أو تسريبات سابقة، ووسط الجمود الذي يعتري الملف السوري، كشفت صحيفة المونيتور الأميركية عن اقتراح تقدمت به شركة بريطانية للبيت الأبيض ولوزارتي الخارجية الأميركية والبريطانية لتطبيق مبادرة “النفط مقابل الغذاء” في سورية، من أجل استخدام عائدات النفط السوري في تمويل مشاريع إنسانية واقتصادية وأمنية في جميع المناطق السورية. وتتضمّن إصلاح قطاع النفط لإعادته إلى سابق عهده الذي كان عليه قبل الحرب، على أن توضع عوائد بيع النفط السوري في صندوق يدار دولياً وتحت إشراف الأمم المتحدة. فهل يتوافق السوريون على هذه المبادرة، وهل يمكن أن تكون دافعاً لوضع سورية على عتبة جديدة من انفتاح المناطق على بعضها وعودة اللاجئين وانتشال المواطن السوري من المجاعة التي يعانيها، والأهم، إنقاذه من هذا المستنقع الذي يعيش فيه، وإدخال الأمل إلى قلبه؟
وتقوم المبادرة التي تقدّمت بها شركة الطاقة البريطانية “غلف ساندز بيتروليوم” في البداية على ضمان موافقة الحكومات الغربية على المشروع، وكذلك على التأكد من عدم انتهاكها العقوبات المفروضة على النظام، وتوافقها مع الالتزام الدولي بمجريات العملية السلمية، بحيث لا تعود العوائد من أجل إعادة الإعمار، كون هذا البند مشروطا بتحقيق تقدّم في العملية السلمية وفق قرار مجلس الأمن رقم 2254. كما تقوم على ضمان موافقة الطرفين صاحبي العلاقة فيها وتوافقهما فيما بينهما، وهما النظام السوري وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تسيطر على مناطق وجود آبار النفط الغنية شرق الفرات بدعم أميركي.
تتضمّن المبادرة إعادة تهيئة آبار النفط، عبر عودة شركات النفط العالمية التي كانت تستثمر في القطاع إلى عملها في المناطق التي كانت تستثمرها
وتتضمّن المبادرة إعادة تهيئة آبار النفط، عبر عودة شركات النفط العالمية التي كانت تستثمر في هذه القطاع إلى عملها في المناطق التي كانت تستثمرها. ويجري الكلام عن إمكانية الوصول إلى تصدير 500 ألف برميل نفط يومياً، بعوائد سنوية تقدر بـ 20 مليار دولار. وإذ قيل إن ثلث هذه العوائد ستذهب إلى شركات الطاقة المشغّلة للآبار، تتعهد المبادرة بعدم وصول بقية العوائد إلى يد النظام السوري أو “قسد”، بل استخدامها في توريد الأغذية وتأمين حاجات قطاع الخدمات والمدارس والمشافي وغيرها، كما كان الأمر مع برنامج النفط مقابل الغذاء الذي طبق في العراق سنة 1996.
يتوقف نجاح هذه المبادرة على مدى مراعاتها مصالح الدول الفاعلة على الساحة السورية والمتحكّمة بالقرار السوري، روسيا وتركيا وإيران وأميركا، وكذلك مصالح الدول الأخرى في أوروبا والمنطقة العربية، علاوة على مصالح النظام السوري و”قسد”. وللغرب، وخصوصاً أوروبا، مصلحة في هذا المشروع من أجل ضمان الحصول على مورد إضافي من النفط، وربما الغاز، وذلك لسد نسبة من النقص الحاصل في إمدادات النفط الواردة من روسيا بعد العقوبات التي فرضت عليها وعلى قطاع الطاقة فيها. وعلى صعيد آخر، هنالك مصلحة لأوروبا بنجاح هذه المبادرة من جهة إمكانية مساهمتها في رفع مستوى معيشة السوريين، وإمكانية تأثيرها في وقف موجات هجرتهم، والتي تجتاح أوروبا بسبب الفقر وانعدام الأمل بأي تحسّن قد يطرأ على الوضع السوري المشلول نتيجة عدم تحقيق أي تقدم في العملية السلمية التي نصّ عليها القرار 2254. كما يمكن أن يكون لأوروبا مصلحة فيها إذا ما جرى تخصيص قسم من عوائده للاجئين في المخيمات ودول اللجوء، وكذلك مساهمته في عودة اللاجئين السوريين الطوعية من تركيا إلى سورية، بدلاً من توجههم إلى أوروبا، وهو الأمر الذي شدد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عليه خلال قمة طهران الثلاثية التي جمعت قادة إيران وروسيا وتركيا، والتي عُقدت قبل أيام.
من المحتمل ألا توافق الولايات المتحدة على المبادرة (النفط مقابل الغذاء)، لأنه سيظهرها وكأنها تسرق ثروات الشعب السوري
ولكن هل يمكن لـ”قسد” أن توافق على هذه المبادرة، وهي التي امتنعت، في أوقات سابقة، عن التطبيع مع النظام، واشترطت الفدرلة حلاً، على الرغم من الصفقات التجارية التي تجري بينهما بين حين وآخر، من حيث توريد النفط والغاز من مناطقها إلى مناطق سيطرة النظام، مقابل تزويد مناطقها بالسلع الغذائية وغيرها؟ من غير المحتمل أن توافق على ذلك، في حال بقيت العملية السياسية مجمّدة، لأن ذلك سيفقدها مناطق نفوذها وسيحرمها من عناصر قوتها، ويصادر قرارها السياسي، خصوصاً أن حديثاً جرى مرّات عدة عن إمكانية دمج عناصرها المقاتلة في الجيش السوري، أي إنهاء قوتها العسكرية وعودة الأمور في مناطقها إلى ما كانت عليه قبل سنة 2011.
ومن جهة الرفض أو التردد في القبول، من المحتمل ألا توافق الولايات المتحدة على المبادرة، لأنه سيظهرها وكأنها تسرق ثروات الشعب السوري، بحسب ما قال معلقون على الاقتراح. أما تركيا فقد تجد نفسها بين نارين: مساهمة المبادرة في إنماء مناطق سورية فتصبح قابلة لاستيعاب اللاجئين السوريين الذين يقررون العودة إلى بلادهم. وأن يساهم تطبيقها باستبعاد العملية العسكرية التي عاد الرئيس التركي، بعد القمة المذكورة، إلى التأكيد على أنها ستبقى على جدول الأعمال التركي، ما دامت المخاوف على أمن بلاده القومي قائمة. أما روسيا فسيبقى موقفها غائماً وربما هي بين نارين أيضاً مثلها مثل تركيا؛ إذ ستعيد هذه المبادرة الروح إلى الموانئ السورية، شبه المتوقفة حالياً، والتي تسيطر عليها فتتحصل على عوائد من ذلك، ومن جهة أخرى ستساهم في مد أوروبا بنسبة من النفط الذي حرمتها الحرب الروسية على أوكرانيا منه، وهذا ليس في صالح موسكو.
برنامج من هذا القبيل، تتبنّاه الأمم المتحدة، بغض النظر عن الجهة المقترحة، قد يكون فرصة لأبناء الشعب السوري
على صعيد آخر، ومن تجربة سابقة، يعرف الجميع ما شاب برنامج النفط مقابل الغذاء العراقي من فوضى وفساد داخلي ودولي رافق بيع النفط وتوزيع العوائد من غذاء ودواء. لذلك لم يطرأ تحسّن ملحوظ على أوضاع العراقيين بسبب ذلك الفساد يومها، خصوصاً أن البرنامج جاء بعد أن عانى العراق من عقوبات دولية أزهقت أرواح مليون ونصف مليون طفل. وقد انتشر في تلك الأيام رسم كاريكاتوري غربي يصور عراقيين محبوسين ضمن ما يشبه الحوجلة الزجاجية وحولهم كل أنواع الغذاء من خبز ولحوم وفواكه لا يستطيعون لمسها. من هنا تظهر المخافة من تكرار المشهد ذاته في سورية، فتُستنفد ثروات البلاد، ويُحرم المواطنون من الاستفادة من عوائد هذا البرنامج إذا ما طبق في سورية؛ إذ قد نشهد نشاطاً لعمليات تهريب هذه الأغذية أو المعدات الضرورية في دعم المشاريع الاقتصادية الملحوظة في المبادرة إلى دول الجوار، كما أشار معلقون ومحللون، وبالتالي يكون البرنامج قد حاد عن أهدافه التي في صالح الشعب.
إضافة إلى تلك الشوائب المحتملة، قيل الكثير عن الشركة صاحبة الاقتراح، وقالت أطراف من المعارضة إن الشركة مشبوهة بصلاتها مع النظام وروسيا، وليست المبادرة سوى محاولة منها لإعادة تعويمه وإنقاذه من الأزمة التي يمر بها بسبب الانغلاق السياسي. إلا أن برنامجاً من هذا القبيل، تتبنّاه الأمم المتحدة، بغض النظر عن الجهة المقترحة، قد يكون فرصة لأبناء الشعب السوري لنقلهم من عتبة الجوع الذي يكتوون بجحيمه، ونقلهم إلى عتبة أخرى من الأمل في انفتاح المناطق على بعضها، والدخول في العملية السياسية التي يبدو أن لا شيء يمكن أن يفرضها سوى الضرورة.