هل يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يصبح لاعباً مستقلّاً على الساحة الدولية؟
موقع قناة الميادين-
حسن نافعة:
هل بمقدور الاتحاد الأوروبي أن ينسلخ عن الولايات المتحدة وأن يصبح بالفعل لاعباً مستقلّاً على الساحة الدولية؟
أدلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في نهاية زيارة رسمية قام بها للصين منذ أيام قليلة، بحديث هام إلى عدد من الصحف الفرنسية، قال فيه إن أوروبا “ليست لديها مصلحة في زيادة حدة التوتر في تايوان ويجب عليها أن تسلك تجاه هذه المسألة نهجاً مستقلاً ومختلفاً عن نهج الولايات المتحدة والصين”.
غير أن أهم ما يلفت النظر في هذا الحديث أن الرئيس الفرنسي لم يكتفِ بمطالبة الاتحاد الأوروبي اتخاذ موقف محايد من قضية تايوان وحدها، وإلا لاعتبر ذلك مجرد تعبير عن خلاف في وجهات النظر حول قضية بعينها، وهو أمر مألوف في العلاقات الدولية حتى بين الدول الحليفة، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير حين دعا إلى “استقلال استراتيجي” للاتحاد الأوروبي على الساحة الدولية، وهو ما لا يمكن أن يتحقّق إلا في ظل سياسة دفاعية أوروبية مستقلة عن سياسات كل الفاعلين الدوليين الآخرين، بل وإلى “تقليل اعتماد الاتحاد الأوروبي على الدولار حتى لا يظلّ تابعاً للولايات المتحدة”.
لذا فقد رأى بعض المراقبين في هذه التصريحات دعوة “للتمرّد” على السياسات الأميركية ولفكّ الارتباط بين الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. فإلى أي مدى تتسم هذه التصريحات بالواقعية، وما دلالة إطلاقها في الظروف الدولية الراهنة التي يكثر فيها الحديث عن الحاجة إلى نظام دولي جديد متعدّد القطبية، وهل بمقدور الاتحاد الأوروبي أن ينسلخ عن الولايات المتحدة وأن يصبح بالفعل لاعباً مستقلاً على الساحة الدولية؟
يعتقد البعض أن العلاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا غير قابلة للانفصام، وذلك بحكم ما يربط بينهما من أواصر تاريخية وثقافية وحضارية عميقة. غير أنه بوسع أي باحث مدقّق في مسار العلاقات الأميركية الأوروبية عبر التاريخ أن يلحظ خضوع هذه العلاقات لتقلّبات وصعوبات عديدة في مراحل تاريخية مختلفة.
ففي النصف الثاني من القرن الثامن عشر خاضت الولايات المتحدة، أو بمعنى أدقّ المستعمرات الثلاث عشرة التي شكّلت النواة الأولى للولايات المتحدة، حرباً ضد بريطانيا من أجل الحصول على استقلالها، ومن ثم عُرفت بحرب الاستقلال، وخاضت في نهاية القرن التاسع عشر حرباً ضد إسبانيا دفاعاً عن مصالحها في كوبا. وأصرّت على استئصال النفوذ الأوروبي من الأميركيتين طوال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وهو ما يفسّر صدور مبدأ مونرو عام 1823، ثم حاولت في الوقت نفسه أن تنأى بنفسها بعيداً عن الصراعات التي تعتمل في قلب “القارة العجوز”.
صحيح أن الولايات المتحدة شاركت إلى جانب دول أوروبية في الحربين العالميتين الأولى والثانية، لكنها لم تبدأ في الاهتمام الفعلي بشؤون القارة الأوروبية ككل إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وفي إطار تطلّعها لقيادة النظام الدولي واحتواء الاتحاد السوفياتي المتطلّع لمنافستها على هذه القيادة، ومن ثم فرضت عليها متطلّبات الحرب الباردة أن تسعى إلى إعادة ترتيب البيت الأوروبي على الصعيدين الأمني والاقتصادي، بتأسيس حلف الناتو، من ناحية، وبإطلاق مشروع مارشال، من ناحية أخرى، ومن ثم تعاملت مع دول أوروبا الغربية منذ ذلك الحين باعتبارها دولاً تابعة لا تملك أي خيار آخر سوى الدوران في فلكها في ظل نظام دولي ثنائي القطبية.
صحيح أنها شجّعت هذه الدول على الوحدة والتكامل فيما بينها، بل وساعدتها كثيراً على إطلاق تجربتها التكاملية في بداية خمسينيات القرن الماضي، لكن ذلك كله كان محكوماً باعتبارات فرضها تطوّر موازين القوى في النظام الدولي ثنائي القطبية.
تجدر الإشارة هنا إلى أن أوروبا الغربية لم تستسلم كلياً لهذا الوضع الذي كان أقرب ما يكون إلى وضع التبعية منه إلى وضع الشريك، ومن ثم بدأت تظهر دعوات تطالب بأن يكون لأوروبا شخصيتها الدولية المستقلة عن الولايات المتحدة، وهو ما ظهر جلياً في أعقاب أزمة السويس التي كشفت عن إمكانية تعارض المصالح الأوروبية والأميركية إلى حد التصادم.
ولم تكن الدعوات المطالبة بأن تنهج أوروبا سياسة مستقلة عن القطبين المتصارعين مجرّد دعوات سياسية أو طوباوية خالية من المضمون ولكنها تبلورت في مشروع سياسي قاده الجنرال ديغول في منتصف ستينيات القرن الماضي وأفضى إلى انسحاب فرنسا بالفعل من البنية العسكرية لحلف الناتو عام 1966.
ومع ذلك فقد راحت هذه الدعوات تضعف تدريجياً بمرور الوقت، خاصة بعد رحيل ديغول، إلى أن تلاشت أو كادت، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي الذي فتح آفاقاً جديدة أمام مزيد من تلاحم العلاقات على جانبي الأطلنطي. فخلال الفترة التي هيمنت فيها الولايات المتحدة منفردة على النظام العالمي، توّهمت أوروبا الغربية، والتي حوّلتها تجربتها التكاملية إلى قوة اقتصادية لا يستهان بها، أن بإمكانها أن تؤدي دور الشريك الموثوق به للقطب الأوحد المهيمن، باعتبارها أقرب وأهم حلفائه.
ولذلك سعت أوروبا الغربية للاستفادة من خصوصية العلاقة التي تربطها بالولايات المتحدة، وذلك بالعمل على توسيع تجربتها التكاملية والوحدوية أفقياً، بضم دول أوروبية جديدة إلى عضويتها، بما في ذلك دول أوروبا الشرقية التي كانت حتى وقت قريب أعضاء في حلف وارسو، وعمودياً، بتوسيع نطاق القطاعات المندرجة في العملية التكاملية والسعي لتبنّي سياسة خارجية أوروبية مشتركة.
ومع ذلك يمكن القول إن الولايات المتحدة كانت هي المستفيد الأكبر من التحوّلات التي جرت في أوروبا عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، خاصة وأنها أبقت على حلف الناتو الذي راح يتوسّع بدوره، بالتمدّد شرقاً، ويتبنّى مفاهيم استراتيجية جديدة تجعله أقرب ما يكون إلى منظومة “أمن جماعي” منه إلى منظومة دفاعية.
وفي هذا السياق تحوّل حلف الناتو إلى ذراع أمني تستخدمه الولايات المتحدة في إحكام هيمنتها على النظام الدولي بعيداً عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن. ولأنّ معظم الدول التي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفياتي أصبحت في الوقت نفسه جزءاً من حلف الناتو، فقد تشابكت وتداخلت المصالح الأميركية الأوروبية إلى درجة كبيرة، خيّل معها للعديد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أنه بات بإمكانها أن تعتمد في سياستها الدفاعية بالكامل على حلف الناتو بالدرجة الأولى.
كان يمكن لهذا الوضع أن يستمرّ من دون تعقيدات كبيرة لو كان بمقدور الولايات المتحدة أن تواصل هيمنتها المنفردة على النظام الدولي، وهو ما لم يحدث. فقد أدت استعادة روسيا لمعظم مظاهر القوة التي كان يتمتع بها الاتحاد السوفياتي سابقاً، من ناحية، والصعود السريع للصين كقوة اقتصادية وسياسية عظمى، من ناحية أخرى، إلى تغيير كبير في مختلف المعطيات المحدّدة لموازين القوة في النظام الدولي، الأمر الذي أدخل أوروبا في مأزق كبير، خاصة بعد تبنّي الولايات المتحدة لاستراتيجية مزدوجة تستهدف العمل على احتواء روسيا والصين معاً ومقاومة أي محاولة لتأسيس نظام دولي متعدّد القطبية.
صحيح أن صدمة الغزو الروسي لأوكرانيا فرضت على الاتحاد الأوروبي في البداية أن ينخرط بنشاط في الاستراتيجية الأميركية الرامية إلى إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا في أوكرانيا، غير أن صمود روسيا أمام العقوبات الغربية ساعد في تحوّل الحرب في أوكرانيا إلى عملية استنزاف طويلة المدى راحت تلقي بآثارها السلبية على معظم الدول الأوروبية، حيث راحت دول أوروبية عديدة تقتنع أكثر فأكثر أنها ستكون الخاسر الأكبر في حرب لن تستفيد منها سوى الولايات المتحدة، بينما ستتحمّل هي القسط الأوفر من فاتورة الحرب الإجمالية.
زاد من هذه المخاوف تصاعد التوتر في بحر الصين بسبب إصرار الولايات المتحدة على مواصلة احتواء الصين واستخدام قضية تايوان كأداة للضغط عليها وحصارها، وأيضاً بسبب إحساس أوروبا المتنامي بأن تماهيها مع السياسة الأميركية المعادية لكل من الصين وروسيا في الوقت نفسه سيكلّفها أعباء لا قبل لها بها. وهو ما يفسّر تصريحات ماكرون الأخيرة التي تطالب الاتحاد الأوروبي باتخاذ موقف محايد من قضية تايوان وبأن تكون له رؤيته الاستراتيجية الخاصة وسياسته الخارجية والدفاعية المستقلة، خاصة عن الولايات المتحدة الأميركية.
كان لافتاً للنظر حرص الرئيس الفرنسي ماكرون على أن يصطحب في زيارته الأخيرة للصين وفداً ضخماً مكوّناً من 50 شخصية تضم معظم رؤساء كبرى الشركات الفرنسية، وأن يتم خلال هذه الزيارة التوقيع على 18 اتفاقية في مختلف المجالات. وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن فرنسا تبدو عازمة على المضي قدماً في تطوير علاقتها بالصين على المستويات كافة، بصرف النظر عن سياسة الولايات المتحدة الخارجية تجاهها.
كما كان لافتاً للنظر أيضاً أن يحاول ماكرون تجديد دعوته للصين بالتدخّل للتوصل إلى تسوية للأزمة الأوكرانية، وأن يخلو البيان الفرنسي الصيني المشترك الذي صدر في ختام الزيارة من أي إدانة للموقف الروسي من الأزمة الأوكرانية.
وتلك كلها مؤشرات توحي بأن إطالة أمد الحرب في أوكرانيا واستمرار الضغط الأميركي على الصين قد يؤديان، على عكس ما تأمل وتتوقّع الولايات المتحدة الأميركية، إلى تهيئة المسرح الدولي لظهور نظام دولي متعدّد القطبية، يشارك فيه الاتحاد الأوروبي كلاعب مستقل، وهو ما قد يعني، في التحليل الأخير، انهيار حلف الناتو.