هل يدفعُ “المجتمع” الإسرائيلي ثَمَنَ نِفاق “اليسار” الصهيوني وازدواجية معاييره؟
موقع قناة الميادين-
محمد هلسة:
شجّع “اليسار” الإسرائيلي، بسلوكه، اليمين الفاشي وسمح بتمدّده؛ إيماناً بأنه ما دامت أجندة اليمين وبرامجه الفاشية موجّهة ضد الفلسطينيين فلا ريب في ذلك، ولا حاجة إلى رفع الصوت بالاحتجاج.
لم يُحقق مجتمع الهجرة الاستيطاني اليهودي في “إسرائيل” حدوده الاجتماعية والثقافية والسياسية بشكلٍ نهائي بعد، وما زالت حالة عدم الاستقرار تحكم مفاصل العلاقة بين أطيافه المختلفة حول شكل “الدولة” وماهيتها، “ديمقراطية ليبرالية” أم دولة “هلخاه” شريعة دينية!.
ولضمان إرساء أُسس نظامٍ اجتماعي توافقي بين العلمانيين والمتديّنيين في “الدولة”، اعتُمدت سياسة “التسويات” كمرجعية ناظمة للعلاقة بين الدين والدولة أو بين الحريديم “المتدينين” والعلمانيين “اليساريين”، وشَمِلت كل القضايا الثانوية المنبثقة من الخلاف الجوهري الأساسي حول طبيعة “الدولة” مثل، دستورها، وفصل الدين عن “الدولة”، والحفاظ على “الحلال” في المؤسسات العامة، والحفاظ على قُدسية يوم السبت، ومكانة التعليم الديني اليهودي المستقل، وغيرها.
استمر هذا الترتيب لحلِ الخلافات بين الأحزاب العلمانية والدينية بهدف تمكينها من “التعايش معاً”، وضمان الاستقرار السياسي والاجتماعي في ظل “دولة إسرائيل” إلى اليوم. لكن، يبدو أن هذا الترتيب الذي استمر كإطارٍ ناظمٍ لعلاقات الشرائح المختلفة داخل “الدولة”، على وشك أن تَطالَهُ تغييرات جوهرية تُهدّدُ بنَسفِه مع اعتلاء اليمين الديني الفاشي للحكم.
فكيف ساهم “اليسار” الصهيوني الليبرالي في تمدد اليمين المتطرف الفاشي، ولماذا تتعالى احتجاجات هذا “اليسار” الآن بعد وصول اليمين إلى الحُكم؟
تستند فلسفة “اليسار” الصهيوني إلى افتراض أن “دولة إسرائيل” يمكن أن تكون دولةً يهودية ديمقراطية، وأن تكون “دولة” احتلالٍ في الوقت ذاته، وأنه لا تناقض بين اليسار والصهيونية.
أراد “اليسار” استمرار التمسك بِحُب “إسرائيل” من جهة، ومعارضة الاحتلال من جهة أخرى، معتقداً بأن جوهر الصهيونية الذي يشمل النزعة العسكرية والعنف والعنصرية والشوفينية، يمكن أن يتعايش مع نظرة يسارية للعالم، وأن الاحتلال لا يَضُرّ بشرعية “دولة إسرائيل”، لذا استند برنامج حزب العمل، بصفته الممثل الرئيسي لليسار الصهيوني، إلى الروح الصهيونية لبناء “الدولة” والهجرة والأمن.
وبنظرةٍ سريعةٍ إلى الوراء، يتبدّى حجمُ الضررِ الذي ألحقه هذا النهج من سكوت “اليسار الإسرائيلي” على أفعال اليمين ضد الفلسطينيين، ومدى مساهمته في تشجيع هذا اليمين وتمدده تحت ستار إمكانية توفيق “اليسار” بين برنامجه “اليساري” ونظرته الصهيوينة. بل يتبدّى أكثر حجم ما اقترفه “اليسار” الصهيوني من إيذاءٍ بحق الفلسطينيين، سواء خلال وجوده في الحكم “حزب مبام” ثم لاحقاً “حزب العمل”، أو خارج الحكم بسُكوته وإقراره التام لأفعال اليمين وفاشيته بل والتغطية عليها.
ولطالما تعاطى “اليسار” الإسرائيلي بغض الطرف تارةً وبالإسناد تارةً أخرى إلى كل ما ارتُكِبَ بحق الفلسطينيين من قتلٍ وإيذاء مادي ومعنوي، ولم يرمش جِفن الأحزاب التي تدّعي انتسابها إلى “اليسار” لكُل تلك الفظاعات.
في الواقع، لا ينبع ضَعفُ “اليسار” الصهيوني أمام اليمين ومساهمته في وصوله إلى الحكم، من التناقض بين الصهيونية والأفكار اليسارية فقط، بل من حقيقة أن “اليسار” لم يُعانِ من الاحتلال، ولا من سطوة اليمين المتطرف الذي ظلت نيرانه موجّهة نحو العرب والفلسطينيين حَصراً.
هذا الوضع “الرمادي” سَمَحَ لـ”اليسار” بواقعٍ مُريح لم يكن لديه مصلحةٌ كبيرة في السعي لتغييره.
في مثل هذا الواقع السياسي، فإن الافتقار إلى “إلحاح الأمر” في ما يتعلق بحياة “اليسار” يسمح له بالانسحاب من طرح سياسات التغيير السياسي في ما يخص الاحتلال، واستبدالها بشعاراتٍ “أقل تكلفة” بالنسبة إليه، كمقاومة الفساد على سبيل المثال.
في الواقع، كلما فقد “اليسار” سلطته السياسية وقدرته على التأثير في الواقع اتجه إلى تبني نظرياتٍ ذات نبرة أكثر يمينية، مع تفسيراتٍ أكثر عمومية في ما يتعلق بالواقع السياسي، وهو ما كان حاضراً لفترة طويلة في الخطاب السياسي الإسرائيلي ولم يؤدِ إلى نجاح “اليسار”، بل عمّق فَشَلَه.
لم يجرؤ هذا “اليسار” على أن يرفع عقيرته في مواجهة اليمين الإسرائيلي، أو طرح مساراتٍ عملية تُفضي إلى حلٍ سياسي، بعيداً من منطق القوة والقتل الذي يتبناه اليمين الإسرائيلي.
إن تراخي أحزاب “اليسار” الصهيوني وضعفها في ائتلافٍ حكومي وصف بأنه “ائتلافُ تغيير”، بمشاركة اليسار الصهيوني والعرب، هو مظهرٌ آخر من مظاهر هذا التواطؤ. هذا التماهي بين قُطبي الخارطة السياسية في “إسرائيل” في ما يخص القضية الفلسطينية وكيفية التعاطي مع الحقوق الفلسطينية عزّز في الوعي الإسرائيلي العام السلوك اليمني تجاه كل ما هو مرتبطٌ بفلسطين وقضيتها.
لقد شجّع “اليسار” بسلوكه هذا، اليمين الإسرائيلي الفاشي وسمح بتمدّده؛ إيماناً منه بأنه ما دامت أجندة اليمين وبرامجه الفاشية موجّهة ضد الفلسطينيين فلا ريب في ذلك، ولا حاجة إلى رفع الصوت بالاحتجاج ويكفي بعض العتب “الشخصي” الإعلامي الخجول، ما سبّب ضرراً غير مسبوق بالعلاقة بين الناخبين والمُنتَخبين، وبالتأكيد لمصلحة الجانب الأيمن من الخريطة السياسية الإسرائيلية.
بالنسبة إلى “اليسار” الصهيوني، الذي يعيش عُقدة اتهامه إسرائيلياً بالتفريط الدائم، يمكن تبرير هذا السلوك بأنه يَخلق تضامناً مع مواقف “الأغلبية اليهودية”، إذ لا يمكن الخروج من الصهيونية لحل التناقضات الداخلية التي يعيشها “اليسار”، وهو كذلك يسمح بالاستمرار بالاحتفاظ بإشارات “الفضيلة” للمواقف اليسارية، ولا يؤدي إلى “تنفير” أولئك الذين يلتفون حوله، على قِلتهم، إذ يميل معظم “اليهود الإسرائيليون” إلى تعريف أنفسهم في سياقٍ قومي، وتؤدي معارضة الرموز أو الأفكار الوطنية القومية إلى تقويض إمكانية التضامن مع “اليسار” الصهيوني.
هناك أساس معقول للافتراض أن غياب مرتكز أيديولوجي لدى “اليسار” غير مرتبطٍ بالصهيونية أو القومية اليهودية أو “دولة إسرائيل” كدولة للشعب اليهودي، أدى إلى استمرار التطرف الأيديولوجي وتقوية العناصر الراديكالية والعنيفة.
واليوم، إذ تنقلب أجندة اليمين الإسرائيلي إلى الداخل ويفرض اعتلاؤه الحكم استحقاقاتٍ داخلية “مُخيفة” تطال هامش الحياة العامة الذي كان متاحاً لـ”اليساريين” والعلمانيين وفق منطق “التسويات” الذي سبقت الإشارة إليه، فإن صُراخهم يعلو مُحذّرين من مغبة المساس بقيم الديمقراطية وحقوق القطاعات المختلفة كالنساء والمثليين وغيرها.
هذه الانتقائية وهذا النفاق “اليساري” الذي يرى أنه يجوز المساس بكرامة شعب بأكمله يقع تحت سطوة الاحتلال وقتله وتشريده، في حين ينتفض مُحَذّراً من حربٍ أهلية لمجرد محاولة اليمين الإسرائيلي طرحَ أفكارٍ يراها مخالفةً لقيمه الليبرالية هو الذي قادَ، من بين أمورٍ أخرى، إلى هذا التغوّل اليميني الفاشي في “إسرائيل” اليوم.
وبنظرة سريعة على الاحتجاجات التي أطلقتها رموز هذا التيار “اليساري” السياسية والفكرية، والشعارات التي يرفعونها نجد أنه لا إشارة في ما يُطرح من اعتراضاتٍ على سلوك هذا اليمين تجاه فلسطين والفلسطينيين، إنما تأخذ احتجاجاتهم طابع “التخوفات الداخلية الحصرية” من اليمين ضد كل ما هو “يهودي” فقط!.
فلا ضير من طرح عقوبة الإعدام بحق الأسرى الفلسطينيين، ولا مانع من توسيع صلاحية بن غفير ومنحه صلاحيات أمنية أوسع لقمع الفلسطينيين، ولا بأس في سحب جنسية من تسمّيهم “مخربين” إلخ.. لكنّ منع مسيرةٍ للمثليين أمرٌ فظيع، والفصلَ بين النساء والرجال على الشواطئ لا يقل فظاعة، ما دام يَمسُّ “اليهود” دون سواهم!.
وفي الإطار الأوسع، ربما يمكننا أن نفهم أيضاً لماذا تصدُر بعضُ التصريحات الأميركية المُحذّرة من يمينية بن غفير وسموترتش وانعكاسها على “إسرائيل” وصورتها واستقرارها. فالولايات المتحدة التي رَعَت هذا الكيان منذ نشأته وضمنت تفوّقه النوعي العسكري، ووفّرت له الغطاء السياسي في المحافل الدولية، لم يكن ليقلقها مزيد من القتل والإيذاء للفلسطينيين، وهي التي تعاملت مع حكومة نتنياهو اليمينية وتعاملت مع نفتالي بينت، زعيم البيت اليهودي، الذي لا يقل يمينيةً وتطرفاً عن بن غفير أو سموترتش، بل هي قلقةٌ من أن يؤدي وصول هذا اليمين الفاشي إلى تفكك “إسرائيل” من الداخل، وتخشى على “إسرائيل” من ذاتها، إذ لن ينفعها حينها الفيتو الأميركي أو العتاد الأميركي المتطور، فكيف لها أن تتدخل لتحمي “إسرائيل” المتطرفة من “إسرائيل” الأكثر تطرفاً!، ولا تزال تداعيات اقتحام الكابيتول الأميركي حاضرة في الساحتين الأميركية والدولية، فهل تصمد “إسرائيل” أمام تجربة مماثلة يقودها مجنونيْها بن غفير وسموترتش؟
لقد أفرَغت الأيديولوجية الأداتية الموجودة على الجانب الأيسر من خريطة النظام السياسي الإسرائيلي، “النضال اليساري” من محتواه وحوّلته إلى ساحة معركة للانتهازية التي تجد هدفها في الوجود السياسي وحده وفي الهيمنة التي تأتي معه. وبدلاً من أن يحارب “اليسار” الإسرائيلي حقيقة إبقاء ملايين الفلسطينيين تحت الاحتلال من دون حقوق مدنية أساسية، يساهم بسلوكه المنافق في زيادة تجنيد أولئك الذين يدعمون اليمين اليوم في هذا المشروع الصهيوني الاستعماري.
ببساطة، لا يمكن استمرار تبني مواقف التعريف الذاتي لغالبية اليهود، لأن الذين لديهم الرغبة في تقرير المصير اليهودي هم في الواقع أسرى لفكرة عنصرية عنيفة وشوفينية حتى لو كانوا يدّعون العمل بِجِد لإنهاء الاحتلال، وها هم اليوم يدفعون ثمن نفاقِهم وازدواجية مواقفهم.