هل نحن بحاجة لمراكز الدراسات والأبحاث؟
صحيفة الوطن السورية-
د. بسام أبو عبد الله:
قد يبدو للبعض أن الكتابة عن الحاجة لمراكز الأبحاث والدراسات في هذا الوقت الصعب بالذات نوع من الرفاهية، ولكن الإضاءة على هذا الموضوع وفي هذه الأوقات الصعبة هي أكثر من مهمة، ضمن إطار التطلع للمستقبل، الذي يجب أن يبنى على أسس جديدة تأخذ بالاعتبار أخطاء، ونقاط ضعف الماضي، وتعزيز نقاط القوة.
وزعت الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين في بيروت، والتي كان لي شرف المشاركة في تأسيسها، ومازلت عضواً في هيئتها الإدارية، دراسة أعدها الباحث د. وليد عبد الحي عن دور مراكز الأبحاث في صنع القرار السياسي في كيان الاحتلال الصهيوني، حيث أشارت الدراسة إلى أن عدد مراكز الدراسات في العالم عام 2007 وصل إلى 5.035 مركز دراسات في 169 دولة، وارتفع العدد سنة 2020 إلى 11.175 مركزاً، أي بمعدل زيادة سنوية تصل إلى 472 مركزاً بحثياً، أما في منطقتنا فقد وصل العدد إلى 373 مركزاً بحثياً بما فيها فلسطين المحتلة، ما يشكل 3.33 بالمئة من مجموع مراكز الأبحاث في العالم، وهي أدنى نسبة بين أقاليم العالم.
يحتل كيان الاحتلال الصهيوني المركز الثاني في عدد المراكز بعد الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ففي كيان الاحتلال 78 مركز دراسات، مقابل 87 في إيران، و53 في تركيا، ما يعني أن كيان الاحتلال يضم 20.9 بالمئة من مراكز الدراسات في المنطقة، بالرغم من أن معدل سكانه الإجمالي سكان المنطقة أقل من 1.3 بالمئة.
ما أريد الإشارة إليه أنه لا يوجد لنا أي ذكر على الصعيدين الإقليمي والعالمي فيما يخص هذه المسألة، إذ إننا لم نعط هذا الجانب أي أهمية، ولم يصل أصحاب القرار بعد إلى إدراك أن الأبحاث والدراسات هي لدعمهم ومساعدتهم وتقديم رؤى علمية ومعلومات موثقة لأي حدث أو تطور، والعمل على بناء سيناريوهات مستقبلية للتطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية، وبدون هذه الأدوات العلمية لا يمكننا التحرك مستقبلاً بخطوات ثابتة وواثقة، لأن التخلص من عقلية المياومة واليوميات، تحتاج إلى تفكير مختلف، وطرق عمل مختلفة، وأدوات حديثة ومتطورة، تجاه التوجهات العالمية وتدخلنا عن قناعة راسخة مرحلة جديدة مستقبلية.
شهدت سورية تجارب مختلفة في تأسيس مراكز الأبحاث الخاصة، انتهى أغلبها إلى الإغلاق والفشل، والحقيقة أن المكان الطبيعي لنمو مراكز الأبحاث يجب أن يكون الجامعات، ولكن للأسف لا نرى حتى الآن بارقة أمل في هذا المجال، فجامعة دمشق الأعرق ما يزال مشروع إعادة إحياء مركزها للدراسات الاستراتيجية بطيئاً، ولم يشهد انطلاقة حقيقية، بالرغم من أنه بدأ بداية واعدة ما بعد الألفية الجديدة، ولكنه عاد وأغلق مرة أخرى، ليعود من جديد حيث نأمل أن ينطلق انطلاقة ثابتة، وراسخة وبعيدة عن المزاجات، والمصالح الشخصية، ذلك أن مراكز التفكير عنوانها الأساسي العمل الجماعي وليس الفردي، والتفكير المشترك لإنتاج وتقديم الحلول لأصحاب القرار، أما الجامعات السورية الأخرى فلم أسمع عن مراكز أبحاث جدية موجودة، ولا أقصد هنا البحوث العلمية التطبيقية التي أعتقد أنها نامية أكثر من البحوث السياسية، والقانونية والاجتماعية والتربوية والنفسية والثقافية، التي تبقى قاصرة جداً بالرغم من أن حاجة سورية في مجال العلوم الإنسانية هي كبيرة جداً مع ما شهده المجتمع السوري من أمراض وانقسامات وظهور للهويات الفرعية، وكل ذلك يحتاج لعمل علمي جماعي تشترك فيه المؤسسات الأكاديمية الجامعية مع المؤسسات الحكومية التنفيذية لإنتاج الحلول للمشاكل الكثيرة التي نواجهها.
السؤال المطروح: ما الذي يمنع مؤسسة السياسة الخارجية من أن يكون لها وحدة بحثية في المعهد الدبلوماسي مثلاً، وماذا يمنع المؤسستين العسكرية والأمنية من أن يكون لديها مراكز بحوث متقدمة، وهي قد يكون لديها لكن ليس بالمستوى المتطور المطلوب، ورئاسة الحكومة لماذا لا يكون لديها مركز بحثي متكامل وهكذا دواليك، والهدف هنا ليس تقليداً لأحد وليس جرياً وراء موضة عالمية، وإنما تأكيد لحقيقة أساسية أنه دون تسخير الإمكانات والكفاءات العلمية وزجها في التفكير الجمعي، والعمل المشترك، وتلاقح الأفكار لم يعد بالإمكان في عالم اليوم تحقيق نهوض حقيقي سياسي واقتصادي واجتماعي، سنبقى نعمل وفقاً لتفكير رغبوي وليس علمياً، كما هو الحال في غالبية دول العالم.
ما هو مثير للانتباه في الدراسة التي أشرت إليها، أن البروفسور السابق في الجامعات الإسرائيلية آلان بابيه كشف أن نصف أساتذة الجامعات الإسرائيلية يعملون مع الأجهزة الأمنية، وهو ما يعني أن الصلة بين صناع القرار والمراكز البحثية قائمة لكنها في الظل، ومحاطة بالسرية، وهو ما يسري على الكثير من الدول في العالم، فأغلب المراكز ذات اتصال، أو تمول من مؤسسات حكومية أمنية أو عسكرية، واهتماماتها يجب أن تنصب على الحفاظ على الأمن القومي بمختلف مجالاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ذلك أن مفهوم الأمن القومي توسع في العالم ليشمل كل مناحي الحياة، فالتربية والتعليم أمن قومي، والموارد المائية والزراعة أمن قومي، والاقتصاد وقيمة العملة أمن قومي، والرياضة أمن قومي… وهكذا دواليك، الأمر الذي يتطلب من مؤسساتنا وضع رؤية واستراتيجية جديدة للأمن القومي السوري من أجل تحديد المخاطر وطرق مواجهتها مستقبلاً، وتعزيز قوة المجتمع، والوحدة الوطنية.
إحدى إشكالياتنا الواسعة هو العقل الفردي «الأنا»، في زمن يعتقد البعض فيه أن كل الحلول بيده، وهو صاحب الحل السحري، ولكن الواقع في مكان آخر فالتفكير الجمعي، وتلاقح الأفكار، والقدرة على إنتاج الحلول هو مفتاح المستقبل لنا، ومراكز الأبحاث التي تسمى بالإنكليزية «THINK TANK» أي خزان التفكير هي المكان الذي تتلاقح فيه كل الأفكار لإنتاج حلول ابتكارية وإبداعية.
أتمنى أن يحظى هذا الموضوع بالاهتمام الواسع على مستوى الجامعات والمؤسسات والأحزاب والحكومة، لأنه أحد مفاتيح المستقبل، شرط ألا يكون الأمر مجرد ردة فعل، بل نهج ثابت مستمر، انطلاقاً من قناعة أن صناعة المستقبل تحتاج إلى أذرع علمية ضاربة تحشد الطاقات والخبرات بهدف الحفاظ على الأمن القومي للدولة والسير بطريقة واثقة نحو المستقبل.