هل من قطب عربي- أفريقي في النظام الدولي؟
صحيفة البعث السورية-
د. معن منيف سليمان:
يُعدّ مناخ العلاقات الحالي بين كل من المنطقة العربية والقارة الأفريقية مناخاً استثنائياً بالنظر إلى طبيعة التحولات القائمة في هيكل العلاقات الدولية والإقليمية بصفة عامة. فهو بلا شك مناخ دافع على التعاون والتنسيق بين الطرفين أكثر من أي وقت مضى، فالعديد من تلك التحوّلات تشير إلى ضرورات واضحة لالتفاف عربي أفريقي حول حماية المصالح، ومواجهة التهديدات المشتركة على نحو يمكن معه أن تكون قطباً دولياً في ظلّ نظام دولي متعدّد الأقطاب.
لا شك أن تفضيل الدول العربية والأفريقية الانخراط في الاستراتيجيات الكبرى للقوى الدولية المسيطرة يعدّ من أول التحدّيات أمام بناء نموذج جديد للتعاون الإقليمي العربي- الأفريقي، وهذا التحدّي يطرح عدّة إشكالات على دول المجموعتين معاً، من قبيل تحدّي الحفاظ على التوازن الإستراتيجي، أي كيفية تدبير الدول الأفريقية والعربية لعلاقاتهما الدولية في ظلّ الضغوط المتزايدة على القارة من لدن القوة المسيطرة المتمثّلة في أمريكا، والقوى الدولية الصاعدة مثل روسيا والصين، وهي ضغوط تفرض على الدول العربية والأفريقية أن تتموضع وأن تنحاز في علاقاتها بتلك القوى، ما يجعلها رهينة في نهاية المطاف لإحدى القوى الدولية، ويشكِّل “نموذج أنغولا”، القائم على “القروض مقابل الموارد”، مثالاً حيّاً على الوضع الذي يمكن أن تنتهي إليه الدول الأفريقية في علاقتها بالصين مثلاً. أما الدول العربية، خصوصاً الغنية منها مثل دول الخليج، فقد تجد نفسها تحت ضغط الحاجة إلى ضمان الأمن والبقاء، منخرطة في تمويل مشاريع ومبادرات القوى العظمى وليس مصالح شعوبها أو الشعوب الأفريقية، خصوصاً وأن الانحياز إلى قوّة دولية معينة يجعلها تحت ضغط وفي مرمى القوى الدولية الأخرى.
ويفرض هذا التحدّي على الدول العربية والأفريقية مجابهة تحدٍّ ثانٍ، يتعلّق بكيفية تعزيز تلك الدول، الأفريقية والعربية، لاستقلاليتها الاستراتيجية إزاء أمريكا كونها القوة المسيطرة، أو القوى الكبرى الأخرى مثل الصين وروسيا، حتى لا تجد نفسها في وضعية تحتّم عليها أن تدفع جزءاً من تكلفة الحرب الباردة الجديدة بين تلك القوى، وهو التحدّي الذي يُحتّم عليها مراجعة حساباتها باستمرار، وعلى نحو براغماتي ومرحلي كون أن المصالح متغيِّرة، ويستدعي ذلك تنويع علاقاتها الاستراتيجية، والرهان على القوى المتوسطة، مثل الهند وتركيا والبرازيل، أو البحث عن بدائل للقوى الكبرى.
أما التحدّي الثالث، فهو البحث عن كيفية التوازن بين التعاون متعدّد الأطراف والتعاون الثنائي، بحيث يكمل بعضهما البعض، على غرار التعاون بين الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي الذي يكمّل التعاون الثنائي بين الدول الأوروبية والدول الأفريقية، وهذا يفرض درجة عالية من الثقة، ومن حسن التنسيق والتعاون، كما يتطلب إرادة سياسية للدول العربية لتجنّب أية خيارات تضرّ بمصالح بعضها بعضاً.
لقد شكّلت الرغبة في التحرّر المشترك من مخلفات الاستعمار الغربي والاستعمار الصهيوني الدافع الرئيسي نحو وضع أسس التعاون بينهما في قمّة القاهرة 1977، ويمكن في حالة توافر الإرادة السياسية مرّة أخرى أن تكون تحوّلات النظام الدولي القائم، الذي يشهد صراعاً قويّاً بين القوة المسيطرة والقوى الدولية الكبرى، حافزاً جديداً للتعاون النافع بين العرب والأفارقة، بدل الاستمرار في الوضع الراهن، أي دفع تكلفة الحرب الباردة المرتقبة بين أمريكا والغرب من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى.
إن ما تواجهه المنطقتان من مخاطر وتحدّيات مشتركة، يستوجب الدفع نحو التنسيق والتشاور بل والتوحّد معاً عبر آليات مشتركة لمواجهتها وتجاوزها والتغلّب عليها، كما أن ما لدى المنطقة العربية والقارة الأفريقية من إمكانات وقدرات وثروات طبيعية وبشرية وبالتكنولوجيا الحديثة، تؤهلهما لأن تكونا قوى فاعلةً على المسرح الدولي وقطباً من بين الأقطاب الدولية الوليدة.
قد يبدو الأمر بعيد المنال، إلا أنه يستوجب التوجه نحو الأخذ به لأسباب تتعلّق بما يشهده العالم من صراعات وتنافس، وما يواجهه من تحدّيات جسام في ظلّ توجه العالم نحو نظام دولي متعدّد الأقطاب، تدفع في مجملها نحو إيجاد قطب عربي أفريقي بين الأقطاب الدولية الأخرى.
ولعل ما يعزّز تلك الرؤية، ما يشهده العالم في اللحظة الراهنة من تطورات لأحداث كالحرب الأوكرانية (العملية العسكرية الروسية الخاصة)، وتغيرات المناخ، بما تفرزه كل منهما من تداعيات على النظام الدولي القائم حالياً والمتسم بنظام القطب الواحد، ولكنه يبدو بالوقت نفسه متجهاً نحو نظام دولي متعدّد الأقطاب.
إن إدراك صُنّاع القرار العرب والأفارقة لأهمية الدفع بعجلة التعاون الاقتصادي فيما بين دولهم رهنٌ في المقام الأول بتوافر الإرادة السياسية، وهذا في واقع الحال أمرٌ شبه ثابت، ولكن هناك من يشدِّد في المقابل على أن المسألة لا تتعلّق بتلك الإرادة فحسب، إذ أن هناك- بحسب أولئك- حاجة حقيقية لتوافر تصورات افتراضية جادة لدى صناع القرار لما يمكن أن يُسفِر عنه أي شكل من أشكال التعاون بين الطرفين من عوائد وما يمكن أن يواجهه من معوقات، ودرجة التأثير المتوقع لتلك المعوقات. وذلك في حقيقة الأمر هو ما يجب أن يكون محل اهتمام المتخصصين والجهات والمنظمات ذات العلاقة، إذ من المهم أن يسعى كل أولئك لرسم الملامح الافتراضية لمدخلات ومخرجات أي نموذج تعاوني ممكن بين الطرفين على نحو يمكن معه أن تكون قطباً دولياً في ظلّ نظام دولي متعدّد الأقطاب.