هل تقع الحرب العسكرية.. أم تضبط الطبولُ إيقاعَ الحرب الدولية الباردة؟
موقع النشرة الإخباري ـ
عباس ضاهر:
لم يتضح أيُّ توجه دولي حول موعد التسوية السورية رغم نشاط حركة الإتصالات الروسية-الأميركية، وتزاحمت معطيات في الأيام الماضية عززت المخاوف من إشتداد الأزمة.
قفد سجلت الأسابيع القليلة الماضية تقدماً للجيش السوري على جبهات ريف دمشق، حمص-ريف القصير ومحاصرة المدينة، ريف إدلب وصولاً إلى حلب، إضافة إلى مناطق محاذية للعاصمة كداريا وجوبر وبرزة.
هذا التقدم الميداني العسكري إستند إلى حقيقة تطور أداء وحدات الجيش السوري بعد دورات أُجريت لعناصر نخبوية، إعتمدت في القتال على التدخل السريع والمدروس، ولم تعد تستخدم النار العشوائي الكثيف كما كانت تفعل الألوية العسكرية في بداية الأزمة، بل أصبح إطلاق الرصاص مدروساً وفق قاعدة “لكل مقام مقال”.
مقابل التطور العسكري في التعامل مع الميدان، كانت المجموعات المسلحة تصل في بعض المناطق خلال الأشهر الماضية إلى مرحلة “النشوة”، وتحدثت الأنباء عن إختلاف بين المسلحين أحياناً حول تقاسم النفوذ والمسروقات كما في أرياف حلب والمنطقة الشرقية. وعزز التباين القائم بين مسلحي “جبهة النصرة” والمجموعات الأخرى الخلاف الميداني، إذ إنعكس تعدد المجموعات المقاتلة في مشهد الدعم المالي الخليجي، وتكرّست قضية المحسوبيات، إلى حد أصبح يولّد الخلاف نفوراً وثرثرة متبادلة رُصدت على موجات الأجهزة اللاسلكية.
تقول المصادر أن الجيش السوري رصد كل التفاصيل المتعلقة بالمسلحين في كل منطقة، وإستطاع ان يخرق مجموعات المقاتلين بعناصر إستخباراتية، وحصل الأمن السوري على وثائق ورسائل كان يتبادلها المسؤولون عن المجموعات مع مسؤولين في “الإئتلاف” المعارض عبر البريد الإلكتروني، وتحوي محاضر الإجتماعات ونقاط القوة والضعف، عدا عن أن الجيش إستطاع كشف أسرار عدة عن الخطط الميدانية وأعداد المقاتلين، إضافة إلى إستعماله وسائل إتصالات حديثة وذات تقنية متطورة في التجسس على المجموعات المسلحة.
إكتشفت المجموعات تلك الوقائع ونفذّ بعضها “حكم الإعدام بحق المشكوك بأمرهم المخبرين للنظام”، مما ساهم بفرط مجموعات كانت تُصنّف نفسها في خانة “الجيش الحر” لصالح “جبهة النصرة” التي عُرف عن مقاتليها المسنودين أساساً بعناصر أجنبية وعربية، أنهم “أشداء لا يهابون الموت ويقاتلون حتى الرمق الأخير”، ويقول بعض أفراد الجيش السوري إن أعداداً كبيرة من المقاتلين التابعين للجبهة المذكورة حين يهاجمون المراكز العسكرية يعتمدون أسلوب الجحافل دون توقف، ويروي هؤلاء أن بعض المسلحين يستمرون في إطلاق النار رغم إصابتهم حتى يسقطون أرضاً.
في هذا السياق، إزدادت أعداد الجبهة وتوسّع الشرخ بينها وبين المعارضين السياسيين، لكن المعارضة لم تستطع البوح بحقائق الخلاف الحاد مع “جبهة النصرة”، بشكل يساعدها في عدم إتخاذ أي موقف ضدها أمرين: قدرة الجبهة الميدانية وغض النظر الغربي عنها، رغم ما قيل عن وضع الجبهة على اللائحة الإرهابية.
لم تكن واشنطن تغفل عن أي تفصيل سوري، ووصلتها الأنباء عن تقدم الجيش النظامي، و تحدثت المعلومات عن تقارير إستخباراتية حصلت عليها وكالة المخابرات الأميركية تُفيد أن تنظيم “القاعدة” بات يعاني من أزمة عدم القدرة على تأمين “الجهاديين” للذهاب إلى سوريا، وأوردت صحيفة “اللوموند” الفرنسية تقريراً شرحت فيه معاناة المسلحين مقابل تفوّق الجيش السوري. ووصلت الحسابات الدولية إلى مرحلة السؤال عما يمكن فعله في سوريا، بعد إستنفاد كل الوسائل الطائفية والمذهبية والمالية…
الى ذلك، شعرت العواصم الغربية بحرج أمام شعوبها التي باتت تتحدث عن صراع في سوريا بين الدولة من جهة وبين “القاعدة”، وبات عامل الوقت يلعب لمصلحة النظام السوري، والدليل يكمن أساساً في المشهد الإعلامي الدولي الذي صار يستحضر وقائع ميدانية عن قتال واضح المعالم تغيب عنه أية مطالب شعبية ضد النظام، كما كان الأمر في بداية الأزمة، فيما كانت الدول الأوروبية تستشعر الخطر في قضية “المتطرفين” الأوروبيين بعد عودتهم من سوريا، ومن هنا جاء موقف ألمانيا التحذيري ورفضها أي تسليح للمعارضة السورية، وأوردت المعلومات أن برلين توسطت لدى دمشق سراً للمساعدة في تسليم موقوفين أوروبيين لدى السلطات السورية، كما جاء موقف إسبانيا معبّراً في بيروت بحديثه عن أن الرئيس بشار الأسد لا زال يمثل شعباً.
وفي السياق عينه، تحركت واشنطن على خطوط عدة، حيث طلبت من الأردن تسهيل تحرك المسلحين في درعا مقابل وعود عربية وغربية بمساعدات مالية لعمّان من جهة، وحماية من الحركات الإسلامية التي تظاهرت ضد النظام الأردني في الآونة الأخيرة من جهة ثانية. وكان الهم السعودي إيجاد مجموعات سورية معارضة في الجنوب على الحدود مع الأردن، لا تأتمر بأوامر قطر أو تركيا كما في الشمال المتفلّت على طول حدوده تقريباً، وقدمت واشنطن والرياض وعوداً بإقامة منطقة عازلة في درعا وصولاً إلى الجولان للإعتقاد أن قرب المسافة الجغرافية نسبياً من العاصمة “سيسبّب ضغوطاً هائلة على الأسد”.
راقبت الولايات المتحدة الأميركية أوضاع الميدان ولاحظت أن الجيش السوري ثابت وأن وضعه يتحسن، وتردّدت معلومات وصلت إلى أروقة العواصم الغربية عن تعاطف شعبي بدأ يتجدد حول النظام ووحداته العسكرية والأمنية، بعد إنكفاء عنه أو تخلٍ لحظة إندلاع الأحداث في سوريا، لأن مسألة إسقاط النظام لم تعد قابلة للترجمة كما كانت وعدت المعارضة، عدا عن الخسائر في الأرواح والمساكن والبنى التحتية والتدمير الممنهج، وفظاعة التصرفات الميليشياوية.
في الميدان الدبلوماسي أخفقت قطر بترويج مشروع قرار أممي ضد سوريا، وواجهت صعوبات في تأمين الأصوات بعد معارضة دول أساسية، ما اضطر الدوحة إلى إعادة حساباتها في تعديل القرار، ما يعني عدم القدرة على محاربة سوريا أممياً بفعل وجود دول البريكس وحلفاء دمشق التقليديين. كما أخفق العرب في فرض معادلة تنصيب المعارضة على مقعد سوريا في الأمم المتحدة، لا بل أن دمشق تحكّمت بمهمة الإبراهيمي ولم تعد تعترف به ممثلاً للجامعة العربية، بل فقط تتعامل معه كمبعوث أممي.
في هذه الأثناء رفع الروس من مستوى الكلام حول سوريا بالإستناد إلى وقائع الميدان، وتمسكوا بوثيقة جنيف كأساس للحل السلمي، فإزدادت وتيرة الإتصالات الروسية-الأميركية التي لم تقتصر عند حدود وزارتي الخارجية، بل تعدّدت على مستوى الرئاسة قبل اللقاء المرتقب في حزيران المقبل بين الرئيس الأميركي باراك أوباما ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، وزيارة الأول إلى موسكو في أيلول المقبل.
قيل أن الأميركيين أبلغوا الروس “أنكم تجاوزتم الخطوط الحمراء قبل حسم التسوية”، بالإشارة طبعاً إلى أوضاع الميدان السوري وتقدم الجيش السريع في الأيام الماضية، ومن هنا جاء الحديث الأميركي عن موضوع الأسلحة الكيميائية كذريعة للتلويح بإمكانية التصعيد ضد دمشق، لكن لا قدرة عملية في مجلس الأمن على فرض أي قرار بوجود الفيتو المزدوج الروسي-الصيني.
ويروي مراقب دولي أن الأميركيين طالبوا الروس بعدم الإخلال بمعادلة المحافظة على الوضع السوري كما هو الآن “دون نصر لفريق على حساب آخر، والبقاء بحالة الإستنزاف حتى إيجاد تسوية شاملة”، ولذلك جاء فتح جبهة العراق الداخلية كي تُشغل بغداد ومعها إيران عن مؤازرة سوريا، وتُرجم الضغط على عمّان لتكون إلى جانب الغرب والدول الخليجية، رغم أن الأردن مقبلٌ على خلاف داخلي سياسي بعد حصول تباين حول التعامل مع أزمة سوريا.
ويقول المراقب الدولي نفسه ان واشنطن باتت تعبّر عن إنزعاجها من تمدد روسيا السريع، وإستقبال الرئيس المصري محمد مرسي الذي بالغ في إمتداح الروس إلى حد يعتقد السامع أنه يستعيد أيام الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في حلف القاهرة مع موسكو. كما أن طهران أصبحت عملياً في نادي الدول النووية دون تأثير غربي في الحد من قدراتها.
الضغوط الأميركية حول سوريا توزّعت وتُرجمت بمواقف الحزب الجمهوري وصولاً إلى قول السيناتور جون ماكين عن ضرورة إعداد قوة لغزو سوريا، فيما كان الحديث يتمحور عن تخطيط الغرب لضرب قواعد سورية بصواريخ بعيدة المدى، خوفاً من الدفاعات الجوية السورية التي تملك مضادات روسية قادرة على إسقاط الطائرات، وقد جاء إعتراف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لافتاً في توقيته حول تزويد موسكو دمشق بالدفاعات الجوية. وفي الواجهة الإعلامية كان الدور الأبرز لإسرائيل في عقد جلسات وزارية والتحضير للخيارات العسكرية، لكن الجبهة الأضعف عملياً هي إسرائيل كما يقول عالمون بما يجري، لأن المعادلة وُضعت إيرانياً: “تل أبيب مقابل دمشق”. وهكذا تبدو الخيارات العسكرية مستبعدة، والتلويح بها يأتي لضبط الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو، في وقت يبدو حجم الملفات المطروحة في المنطقة أكبر من قدرة مدة زمنية محدودة على إستيلاد التسوية.