هل اليمنُ معضلةٌ أمنية للسعوديّة؟!
صحيفة المسيرة اليمنية-
عبدالملك العجري:
لماذا يُنظَرُ لليمن كمعضلةٍ أَو مأزِق أَمْــنيٍّ للسعوديّة؟ وهل فعلًا يُمَثِّـلُ مصدرَ تهديد للسعوديّة؟ وماذا عن التهديد الذي تشكِّلُه السعوديّةُ لليمن؟
يقولُ أصحابُ نظرية “اليمنُ الخطر”: إنَّ اليمنَ طوالَ القرن العشرين دولةٌ غيرُ مستقرَّة، ذاتُ مواردَ محدودةٍ تُعانِي من تخلُّفِ التنميةِ الاقتصادية والاجتماعية، وعاجزةٌ عن القيامِ بوظائفها في الرِّعايةِ والحِمايةِ والسيطرةِ على إقليمها وحدودها، وتقعُ في خاصرة الخليج، وتشتركُ مع السعوديّة بحدود طويلة، هذا الترابط جعل النزاعاتِ والمشاكلَ الداخليةَ الأمنية وغيرها تتعدى كونها شأنًا وطنيًّا أَو داخليًّا يخُصُّ الحكومةَ اليمنية -على حَــدِّ الباحث الخليجي في العلاقات الدبلوماسية أبو زيد – فاليمنُ جُزءٌ لا يتجزَّأُ من الأمن القومي للسعوديّة.
وعلى العكس، السعوديَّةُ دولةٌ مستقرَّةٌ وقويةٌ وآمنةٌ ومسيطِرةٌ ولا تعاني أَيَّةَ مشاكلَ يمكن أن تؤثرَ على اليمن. وزوال التهديد الذي يُشَكِّلُه اليمنُ على السعوديّة والمعضلةُ الأمنيةُ التي يتسبب فيها لا يتحقّقُ إلَّا بوجود دولة مستقرَّة وقادرة على فرض سلطتها على كامل إقليمها وحماية حدودها والقيام بوظائفها الأَسَاسية، وثانيًّا ألَّا يكون لدى النظام الحاكم في صنعاء توجّـهاتٌ معادية للنظام السعوديّ؛ ولضمان ذلك يجبُ إبقاءَ اليمن قيدَ النظر، وَمنطقةَ نفوذ مقفلةً وغيرَ قابلة للمزاحمة، ولا تلقي بالًا لكون اليمن دولةً مستقلةً وللقانون الدولي ما دامت قادرةً ولديها القوة الكافية لفرض وجهة نظرها.
وهو تصوُّرٌ يلقى مساندةَ الولايات المتحدة وَالأنظمة الغربية التي تنظُرُ لليمن بعيونٍ سعوديّة، ولحجم المصالح التي تربطهم بها يرَون من حقها كدولة مستقرَّة وقوية أن تحميَ أَمْــنَها ونفوذها حتى ولو كان ذلك على حساب أَمْــن وسيادة اليمن.
بطبيعةِ الحالِ لا يُنكِرون أنَّ المواثيقَ الأمميةَ والقانون الدولي -على المستوى النظري- يمنحُ اليمن حقوقًا متساويةً مع السعوديّة ومع كُـلّ الوحدات المكونة للنظام الدولي، لكن على الواقع، فالأمرُ مختلفٌ فما تملكه كُـلُّ دولة من عناصر القوة هو العاملُ الحاسمُ في ترتيب وزنها الدولي وطبيعة علاقاتها في الدول الأُخرى، من حَيثُ التبعية أَو الهيمنة، وبحسب المنظور الواقعي فالأمن القومي للدول بالغُ التعقيد، إذ يحدث كَثيراً أن أَمْــنَ دولة هو في الوقت ذاته تضحيةٌ بأمن وسيادة دولة أُخرى.
على مدار عقود كانت السياسةُ الخارجيةُ السعوديّة تجاهَ اليمن تعتمدُ على أدوات النفوذ الناعمة والوكلاء المحليين واستخدام المال السياسي، لشراء الولاءات، لكن مع اعتلاء الملك السعوديّ سلمان العرشَ، وسيطرة ابنه وَولي عهده محمد، على مقاليد الملك تخلَّتِ المملكةُ عن سياستِها التقليدية إلى سياسةٍ ذاتِ طابعٍ هجومي ونهجٍ إرغامي باستخدامِ القوة الخشنة وَالنزعة العسكرية تجاه قضايا الصراع الإقليمي كان أبرز تجلياتها التدخُّلُ العسكري في اليمن.
وعلى حَــدِّ خبير غربي، “ثمّة تفسير يرى أن هذا النهج المُغامِر ينبع من شعور الرياض بالإحباط إزاء ما تعتبره انسحاباً أمريكياً من الشرق الأوسط”، والفراغ الذي سينتج عنه دون سلطة ضبط للتوازن الإقليمي تحل محل الولايات المتحدة سيما بعض دول الخليج التي تعتمد استراتيجيتها الأمنية بشكل مفرط على الحضور الأمريكي، وبحسب منظور الواقعية المتطرفة للمحافظين الجدد -الذي ساد العلاقات الدولية وإدارة بوش الابن عقيب أَحْدَاث الحادي عشر من سبتمبر- أنه في ظل بيئة عالمية وإقليمية فوضوية وغياب أَيَّة سلطة عالمية أَو إقليمية قادرة على فرض القانون الدولي وحماية أَمْــنِ الدول من الفوضى والتهديدات العابرة للدول، فَـإنَّ المبدأَ الأَسَاسي هو “احمِ نفسَك” وأن الدولَ القويةَ تفرض هيمنتها وسيطرتها على الدول الأضعف لحماية أَمْــنِها القومي وتعزيز قدراتها المادية وتحصيناتها المختلفة؛ لضمان بقائها في دائرة المهيمن على الدول المحيطة بها.
فسادُ المنظور الواقعي للأمن القومي
كما ساهم المنظورُ الواقعيُّ للمحافظين الجدد في صناعة الفوضى المدمّـرة لا الخلَّاقة وتسبب في الكثير من الكوارث والدمار، وإسقاط أنظمة واحتلال دول مستقلة، وَخلفت أكثرَ من عشرة ملايين قتيل وانتجت بدلاً عن القاعدة قواعدَ ودواعش، وَفجّر حصادُه المُرُّ غضبًا واسعًا محليًّا وعالميًّا على أمريكا. نفس الأمر ينطبق على السياسة الخارجية السعوديّة للعهد السليماني ذات الطابع الهجومي والمتسمة بالمزاجية واللجوء للأساليب الأُحادية والإكراهية أَدَّت لانهيار شعبيّة وسُمعة المملكة وخلقت لها الكثيرَ من الأعداء وَقادت المملكة إلى كثير من المغامرات أَدَّت لنتائجَ عكسية من الحرب على اليمن إلى حصار قطر، وَاحتجاز رئيس وزراء لبنان وَقتل خاشقجي، وَالخلاف مع حركات المقاومة الفلسطينية، والتقارب مع “إسرائيل” وغيرها من الأَحْدَاث التي ألحقت أضرارا بالغة بولي العهد السعوديّ وبمكانة المملكة عربيًّا وإسلاميًّا وعالميًّا، بما فيهم أقرَبُ حلفائهم الأمريكان. وحَـاليًّا تدخل المغامرة العسكرية التي أعلنتها الرياض في 2015 عامَها الثامن وأوصلت المعضلة اليمنية التي تريد الهروبَ منها لمرحلة غير مسبوقة من التعقيد، مخلفة نُدُوبًا ستظل تأثيراتها تسمِّمُ العلاقاتِ المستقبلية.
الموقفُ الغربي والأمريكي المساند والمؤيد لغزو العراق واحتلال أفغانستان والعدوان على اليمن وانتهاك سيادة الدول الأُخرى، لم يكن هو ذاته في الحرب الروسية الأوكرانية، بل انقلب لنقيضه مع أن الموقف الروسي أكثر منطقية، فروسيا لم تخترع حكايةً كحكاية السلاح الكيماوي (كذبة القرن الكبرى) ولم تستخدم مبرّرات معوَّمة وَعائمة أَو شروطًا تعسفية، لا تمانع انفتاحَ أوكرانيا على الغرب أَو أن تكون لها علاقات سياسية واقتصادية مع الاتّحاد الأُورُوبي بقدر ما تعارض انضمامَ أوكرانيا للناتو أَو السماح بإقامة قواعد عسكرية غربية في جوارها، وهو مطلب لا يمكن أن تسمح به أمريكا ولا غيرها في جوارها، ويعتبر تجاوُزًا لكل الخطوط الحمراء لروسيا، بخلاف المزاعم العائمة للعدوان على اليمن، وَأُزْعُومَةِ النفوذ الإيراني دعوى فضفاضة وعائمة لم يستطع العدوان أن يعرِّفَ لنا ما هو النفوذ الإيراني الذي يعتبره خطرًا عليه، هل يقصد به العلاقاتِ السياسية والاقتصادية المشروعة الرسمية بين البلدين؟ وهذا شأنٌ سيادي وليس من حق أحد التحكمُ بالعلاقات الخارجية اليمنية؟ أم إقامة قواعد عسكرية إيرانية على الأرضي اليمنية؟! والسؤال أين هي القواعد العسكرية الإيرانية؟ وعلى العكس في مؤتمر الحوار سعى أنصار الله لتثبيت بندٍ ينُصُّ على تجريم إقامة أَيَّةِ قواعد عسكرية أجنبية في اليمن، وكما سيأتي القواعد العسكرية الأمريكية في المياه الخليجية هي التي تشكل تهديدًا لليمن ولدول المنطقة، سيما أنها خرجت عن وظائفها الدفاعية –بزعمهم- لتهديد الدول الأُخرى، وبالنسبة للمحاور الإقليمية أَو ما يسمى محور المقاومة ومحور الاعتدال هي محاورُ سياسية غير رسمية ولا مؤسّسية تعبر عن تلاقي المواقف الرسمية والشعبيّة تجاه أبرز القضايا والاستحقاقات الإقليمية العربية والإسلامية وعلى رأسها القضية الفلسطينية والعلاقة مع إسرائيل ونحوها فهي ليست تحالفاتٍ عسكرية أَو أَمْــنية على غرار حلف الناتو ولا حتى تكتلًا سياسيًّا وَاقتصاديًّا كالاتّحاد الأُورُوبي، وهذه المواقف تعتبر سياديةً كُـلّ دولة تتخذها وفقًا لمصالحها الوطنية وَتوجّـهاتها الوطنية وَالقومية وَالإسلامية.
السياسةُ الهجوميةُ ليست الوسيلةَ الوحيدةَ لاحتواء التهديدات المحتملة، علمًا أن هذا المنظورَ قد تراجع في بلده الأم الولايات المتحدة وتسببت بالانتكاسة الاستراتيجية له في التحول نحو سياسة الاحتواء الدبلوماسي والذي تُرجِمَ باتّفاق لوزان النووي نهاية إدارة أوباما. كما أن الإعلاء من قيمة المصالح المشتركة يقلل من المخاطر وَانعدام اليقين، وإتاحة الفرصة لاستنفاذ الجهود الدبلوماسية.
وَللأسف فالسعوديّة مع بداية بوادر التوتر عقيب 21 سبتمبر لم تتح فرصةً كافية لأية جهودٍ سياسية وسلمية لاحتواء الأَزْمَــة، لا سيما أن أنصار الله كانوا منفتحين عليها ولا يرفضون التعاون معها ولا في نيتهم تحويل اليمن لدولة معادية، وظلوا يتحاشون الاصطدامَ بها وتجنب أي خلاف معها وهم لا زالوا خارجَ السلطة، حَيثُ تبعات أي استفزاز عليهم وعلى اليمن أخف منها وهم في السلطة، وفوق هذا بادروا في التواصل معها، وبعثوا وفدًا للرياض لمحاولة امتصاص سوء الفهم وتقديم التطمينات إلَّا أن السعوديّة اختارت سياسةَ إقفال الأبواب وظهر حينها أن قرارَ الحرب في طور التحضير والإعداد.
اليمنُ دولةٌ ذاتُ موروث وحضارة وماضٍ عريق، من الصعب أن تتقبَّلَ بسهولة التحولَ لدولة تابعة، ورغم انعدام الاستقرار الذي عانته وتعانيه اليمنُ فَـإنَّ محاولات الاستتباع ستظل تواجهُ مقاومةً نفسية ووجدانية شعبيّة ونخبوية، فاليمن لا يمكن أن تكونَ كالبحرين ولا حتى كأوكرانيا التي ظهرت للوجود بفضل الاتّحاد السوفييتي، وفي ذات الوقت لا تريدُ العِداءَ مع السعوديّة، السعوديّة تريد أَمْــنَها، وهذا حقها، واليمن يريد سيادته، وهذا حقه وَهو الأَسَاس الذي يجب أن تقومَ عليه استراتيجيةُ حماية الأمن القومي للبلدين.
الفراغ أَو الفوضى الإقليمية هي نتيجةُ الاعتماد المفرط على الحماية الأمريكية واستقدام القواعد الأجنبية وَغياب أي تصور للأمن الإقليمي وشلل الهياكل والمنظمات الإقليمية القائمة وافتقادها للقُدرة على توفير مِنَصَّات لتبادل المعلومات والتواصل والتعاون الإقليمي؛ لمواجهة التحديات وحل النزاعات المحلية وَالإقليمية.
ومن المهم أن يتم التفكيرُ في صيغ إقليمية قادرة على معالجة الشواغل الأمنية ولا تستثني أحدًا من أصحاب المصلحة وألّا تكون موجهة ضد أحد، وَأن يعالج الأمر؛ باعتبَاره جزءاً من الأمن القومي العربي.
دخول السعوديّة في ما عُرف بـ “مبدأ ايزنهاور للحماية الأمريكية” أخل بالتوازن الإقليمي وسياسةِ عدم الانحياز، وأعاق استكمالَ وتطوير تجربة التكامل الأمني للتحالف الثلاثي بين مصرَ والسعوديّة واليمن في الخمسينيات.
كانت مصرُ واليمنُ متمسكتَين بالحياد، وانحيازُ السعوديّة للتحالف الغربي ودخولُ الولايات المتحدة كطرف أَسَاسي في معادلة الأمن الخليجي تجاوز الدورَ المتعارَفَ عليه في النُّظم الإقليمية التي تُعلِي من شأن عامل الجِوار على حساب التفاعلات الأُخرى، ودفعت اليمنُ رغم شحة الموارد للإنفاق على التسليح على حساب التنمية.
إعلانُ تشكيلِ مجلس التعاون الخليجي واستبعادُ اليمن؛ بذريعة عدم تماثل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فَرَضَ تحدياً نظرت إليه اليمنُ كتهديد يحشُرُها في زاوية ضيِّقة من شبه الجزيرة العربية، وحاولت اليمنُ موازَنةَ هذا التحدي بالدخول في تحالُفات إقليمية واللجوء للتحالُفِ مع المنافسين الإقليميين للسعوديّة كالتحالف الرباعي في مجلس التعاون العربي بين مصر واليمن والعراق والأردن، وَالتحالف مع العراق كان من بين أسباب توتر العلاقات بين اليمن والسعوديّة في حرب الخليج الأولى.