هكذا تشتري «أرامكو» النفوذ لآل سعود
صحيفة الأخبار اللبنانية ـ
علي مراد:
عدوان طويل على اليمن بضوء أميركي أخضر، إسقاط المحاكم الأميركية لدعاوى دفع الرياض تعويضات لعائلات ضحايا هجمات 11 أيلول، حماية أميركية مباشرة للنظام السعودي، تصدير أسلحة أميركية متطورة إلى الرياض، ومنعها عن باقي العرب. كل هذه الوقائع تؤكد أن المال النفطي أنقذ الرياض كثيراً، وما يزال، وأمّن لها موقعاً إقليمياً… لكن لا يُعرف كثيرون كيف تمّ ومن يؤمّن ذلك
كثيرةٌ هي الوثائق التي انتشرت في الإعلام العربي والغربي، والتي تضمنت تفاصيل تلقّي دول ومنظمات وسياسيين وإعلاميين أموالاً وعطايا كبيرة من النظام السعودي. وصل بعض تلك الرشى حدود مئات ملايين الدولارات.
كما تبيّن مع بداية العام الحالي، في قضية تلقّي رئيس وزراء ماليزيا نجيب رزاق، عام 2013، مبلغ 681 مليون دولار من السعوديين على شكل «هبة». بعض هذه الرشى أظهرتها «ويكيليكس» في وثائق وزارة الخارجية السعودية، والتي نشرتها في حزيران 2015. توجب السعودية على قابض «الهبة» تقديم خدمات عدّة. يهدف معظمها إلى تلميع صورة النظام السعودي في العالمين العربي والإسلامي.
مؤخراً، علت أصواتٌ من داخل الولايات المتحدة هاجمت المملكة السعودية، واتهمتها بشراء مرشحي الرئاسة الأميركيين! في نيسان 2015، اتهم زعيم «الحزب الجمهوري» الأميركي المرشحة عن «الحزب الديموقراطي» لانتخابات الرئاسة، هيلاري كلينتون، بتلقي ملايين الدولارات من السعودية.
وكأنه كان مقدّراً أن تهبط أسعار النفط، وتصبح واشنطن في غنىً عن النفط السعودي، حتى نسمع الرئيس الأميركي، باراك أوباما، يهاجم السعوديين في مقابلته الأخيرة مع The Atlantic. أو أن يصعد المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، المنبر في أحد مهرجاناته الانتخابية ليهاجم السعودية ويشبهها بـ«البقرة الحلوب التي تدرّ ذهباً ودولارات بحسب الطلب الأميركي وسيذبحها حين يجف حليبها».
لآل سعود ذراع قوية بالغة النفوذ، تعدّ الأكبر من حيث رأس المال والقدرة الاقتصادية. استعملوها في الولوج إلى أماكن حساسة في واشنطن، كالكونغرس ومجلس النواب الأميركيين. إنها إمبراطورية «أرامكو» التي يعرض بعضاً من أسهمها ولي ولي العهد محمد بن سلمان اليوم للبيع.
تشرح إحدى وثائق الخارجية السعودية التي نشرتها «ويكيليكس» الصيف الفائت أهمية «أرامكو» لآل سعود. الوثيقة مؤرّخة بتاريخ 16/05/2012. أمر ولي العهد الأسبق، وزير الداخلية نايف بن عبد العزيز، بتشكيل لجنة من أجهزة الدولة الأمنية والوزارات السيادية لدراسة ما إذا كان تعاقد شركة «هواوي» الصينية، مع الحكومة الإيرانية سوف يؤدي إلى تهديد أمن معلومات شركات الاتصالات وشركة «أرامكو». إذ أن الأولى تقدّم خدمات تصميم وبناء إدارة قواعد البيانات للثانية.
نشأة «أرامكو» وتطورها
بعد مرور أشهر على إعلان مملكته عام 1932، أعطى عبد العزيز آل سعود امتيازاً حصرياً للتنقيب واستخراج النفط في المنطقة الشرقية لمدة 60 عاماً لشركة «ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا». عام 1936 اندمجت شركتا «ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا» و«تكساكو» في شركة واحدة سُميت «شركة كاليفورنيا العربية للزيت القياسي»، والتي استخرجت أول نفطها من البئر رقم 7 في الدمام. مبهوراً بإنجازها، أصدر عبد العزيز أمراً بتوسيع امتياز تنقيب الشركة، ليغطي نصف مساحة مملكته.
دفع هذا الاكتشاف الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت إلى تكليف وزير خارجيته كوردل هال بحماية مصالح واشنطن في الامتياز الحصري بالتنقيب واستخراج النفط في السعودية. وبعد اكتشاف ثلاث حقول نفطية كبيرة، تم تغيير إسم الشركة ليصبح «الشركة العربية الأميركية للزيت ــ أرامكو».
وظّفت إدارة الشركة الأميركية سعوديين لإرضاء ابن سعود. وفي عام 1950 وقعت الحكومة الأميركية اتفاقاً مع عبد العزيز نصّ على اعطاء السعوديين نسبة 50% من أرباح الشركة تحت مسمى «ضريبة». وهي أموال تم اقتطاعها من الضرائب المستحقة على شركات النفط للحكومة الأميركية.
كانت تلك الخطوة الأولى لاستعمال «أرامكو» كأداة نفوذ وتأثير في العلاقة بين واشنطن والرياض. استحوذ السعوديون على «أرامكو» تدريجياً. عام 1980 امتلكوا حصة 100% من أسهم الشركة، لكن النفوذ الأميركي بقي في إدارتها حتى عام 1990.
عام 1981 برز دور «أرامكو» حين ضغطت شركات النفط الأميركية على صانعي القرار في الكونغرس. كان الرئيس الأميركي، رونالد ريغن، قد طرح حينها بيع السعودية نظام الإنذار والتحكم المحمول جواً، والمعروف باسم «أواكس».
صرفت شركة «موبيل»، الشريك الأبرز لـ«أرامكو» في الولايات المتحدة، مبلغ نصف مليون دولار على حملة دعائية في الصفحة الأولى لصحيفة «نيويورك تايمز»، تناولت «أهمية الشراكة الاقتصادية بين المملكة السعودية والولايات المتحدة». ودعا رئيس «موبيل» سيناتور ولاية أركنساس، ديفيد برايور، للضغط والتسويق داخل الكونغرس لتمرير صفقة «الأواكس». وهذا ما حصل، رغم الأصوات الكثيرة المعارضة للصفقة في تلك الفترة.
«الخام» لواشنطن
بين عامي 1991 و2003 باعت شركة «أرامكو السعودية» نفطها الخام للمصافي الأميركية بحسومات كبيرة، مقارنة بأسعار البيع للمصافي الآسيوية. يقدّر الخبراء التكلفة الإجمالية لتلك الحسومات بحوالى 8.5 مليار دولار أميركي. لم تنعكس الأرباح، نتيجة الأسعار المخفّضة، على أسعار المحروقات التي يشتريها مستهلكوها، بل اعتبرت أرباحاً ذهبت إلى جيوب المتنفّذين من أصحاب الشركات العملاقة والسياسيين الأميركيين الذين حرصوا على الاعتناء بصديقهم السعودي كلما داهمته الأخطار.
وبينما يعتقد الكثيرون أن أسعار بيع النفط السعودي ثابتة حول العالم، تعتمد شركة «أرامكو السعودية» سياسة بيع الخام نفسه بأسعار تختلف باختلاف الدول المصدَّر إليها نفطها. ربح الأميركيون ما يقارب 1.9 مليار دولار عام 2001، بتخفيضات بلغت 30% من سعر برميل الخام السعودي، وفارق بلغ 6.3 دولار للبرميل الواحد، مقارنةً مع سعر البرميل المباع للدول الآسيوية.
بالإضافة إلى تحديد القيمة الإجمالية من خلال حصص التصدير وسياسات التسعير، تحكمت «أرامكو» بعملية توزيع هذا النفط المنخفض السعر داخل الولايات المتحدة، بحيث ذهب إلى مصافٍ تعتمد سياسات متشددة في عقود البيع التي تبرمها في السوق.
ورغم ضخامة عملية السمسرة التي حصلت بتوزيع عطايا التخفيضات على أسعار الخام السعودي في السوق الأميركي، لم يلفت ذلك نظر الأكاديميين والصحافيين الاقتصاديين في الولايات المتحدة. لقد حصل كل ذلك في غفلة من المهتمين. أو أُريد له أن يمرّ دون أن يتعرّف العالم على كيفية نهب ثروات ومقدرات الشعب في الجزيرة العربية.
عام 2012، قامت الباحثة جينيفر بيك، الحائزة شهادة الدكتوراه في الاقتصاد السياسي من «معهد ماساتشوستس للتقنية MIT»، بإجراء دراسة تحت عنوان: «هل للهدايا الأجنبية دور في شراء العمل السياسي المؤسسي؟ الأسباب والنتائج لبرنامج حسومات الخام السعودي». أجرت الباحثة الأميركية دراسة بالأرقام والقواعد الرياضية، لتقييم نجاح برنامج الحسومات في خلق آلية للتأثير السياسي من خلال تتبع الجهات التي استفادت بشكل مباشر من البرنامج وتحركت سياسياً وفقاً للمصالح السعودية في الولايات المتحدة.
تعتبر بيك أن برنامج الحسومات توقف عام 2003، بعد توتر طرأ على العلاقات بين الرياض وواشنطن. إلا أن «أرامكو» استمرت، حتى اليوم، في دعم شركائها النفطيين في الولايات المتحدة. كانت موجة الغضب على السعودية في الداخل الأميركي في أوجها عقب هجمات11 أيلول، والتي نفذها 19 «قاعدياً» (بينهم 15 سعودياً). إضافةً إلى خيبة الأمل السعودية جراء عدم حماسة الرئيس بوش الإبن للمبادرة العربية للسلام مع إسرائيل، والتي أطلقها ولي العهد السعودي آنذاك عبد الله بن عبد العزيز.
تتبعت بيك المصافي الأميركية التي صبّ فيها الخام السعودي، واحتسبت قيمة أرباح الشركات المالكة للمصافي وأسعار بيع الوقود محلياً في كل منطقة. ثم قامت بقياس حجم تأثير الحسومات على مؤسستي الكونغرس ومجلس النواب الأميركيين. تحليلها تتبع تدفق الأموال من مرحلة شحن الخام وصولاً إلى تمويل الحملات الانتخابية لسياسيي الحزبين «الجمهوري» و«الديمقراطي».
لاحظت الباحثة أن الشركات النفطية التي تقدّم مساهمات لأعضاء «لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب» و«لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ» كانتا الأكثر حصولاً على الخام السعودي المخفّض سعره. بينما الشركات التي لديها تبرعات لأعضاء لجنتي «الطاقة» و«الشؤون الخارجية في مجلس النواب»، و«لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ» كانتا أقل احتمالاً للحصول على الخام السعودي.
هنا يظهر أنّ السعوديين سعوا لإيصال الدعم لأعضاء في لجان تمتلك صلاحيات لا تمتلكها لجان في الكيان التشريعي الموازي. مثلاً، من صلاحيات «لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب» الموافقة أو رفض تصدير التكنولوجيا العسكرية والرقابة على صادرات شركات الأسلحة الأميركية. وهي صلاحيات لا تمتلكها «لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ».
تبنّى مجلسا النواب والكونغرس، خلال فترة برنامج حسومات الخام السعودي، قوانين كان بعضها يعدّ في غير المصلحة العربية ككل. ولكن جرى تعديله لإعطاء الرئيس سلطة إبطال مفعول بعض الفقرات التي تتعلق بالسعودية. مثلاً في «قانون مكافحة التمييز الاقتصادي»، لعام 1995، والذي ينص على منع بيع معدات عسكرية وأسلحة لدول تتبنى مقاطعة إسرائيل، استعمل الرئيس بيل كلينتون حقه في استثناء السعودية لتستمر عملية بيع الأسلحة لها. وفي قانون المخصصات الخارجية عام 2005، أُعطي الرئيس حق تعطيل بعض الفقرات التي يعتبرها مؤذية للعلاقة مع دول حليفة كالسعودية. فمارس بوش الابن حقه المعطى له في القانون بتعطيل فقرة «منع تمويل أي مساعدات خارجية للمملكة العربية السعودية».
السعي السعودي المبكّر للنفاذ إلى دوائر سلطة القرار والتشريع في الولايات المتحدة عبر النفط، رصده ثيودور موران (مسؤول فريق تخطيط السياسات، ورئيس قسم الطاقة الدولية وشؤون أمن الخليج في وزارة الخارجية الأميركية بين عامي 1977 و1978)، حيث ذكر في كتابه «تصميم سلوك أوبيك – البدائل السياسية والاقتصادية»، والذي نشره عام 1980، أنّ السعوديين ومن خلال سلوكهم في «أوبيك» بين عامي 1973 و1980 سيسعون إلى التغلغل لدوائر القرار الأميركي بعد سعوَدة «أرامكو».
لم يعر الساسة الأميركيون بالاً لتوصية موران، أو أنهم عرفوا وأرادوا للأمر أن يحصل لكي يستفيدوا من عائدات النفط السعودي المدعوم مقابل فتات من المصالح والامتيازات للسعودي في منطقة الشرق الأوسط… وصولاً إلى المرحلة الحالية التي تشهد هبوطاً في أسعار النفط الخام، واعتماد متصاعد على النفط الصخري، الأمر الذي أدى إلى تراجع السعودي ــ اقتصادياً ــ في سلّم أولويات السياسة الأميركية الحالية والمستقبلية.
الشركة «المستقلة»
احتفظت شركة «أرامكو السعودية» باستقلاليتها في التشغيل. تحكم نفسها ذاتياً رغم أنها مملوكة للدولة. تتعطّل مفاعيل التعاليم «الوهابية» في منشآتها، فقضايا تحريم الاختلاط وقيادة المرأة للسيارة تختفي داخل مجمّعاتها. الباحث عن معلومات عن الشركة لن يجد الكثير، فالشركة طوّرت نظاماً دفاعياً يحصّنها من محاولات الوصول إلى أسرارها، والتي تحرص كل من إدارتها المستقلة والعائلة الحاكمة على بقائها سريّة وغامضة. أصحاب القرار في العائلة الحاكمة لا يسمحون للبيروقراطية النافذة ولا حتى للأمراء المحيطين بالملوك ووزارة النفط بالاطلاع على أسرار الشركة.
مطلع عام 2013 أصدر الملك السعودي الراحل، عبد الله بن عبد العزيز، أمراً ملكياً قضى بعزل أمير المنطقة الشرقية القوي محمد بن فهد (الصورة) من منصبه. وبحسب الباحث بالشؤون السعودية في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، ستيفان هيرتوغ، فإن سبب عزله كان تدخله المباشر في سياسات «أرامكو».