هكذا تستدرج إسرائيل يهود فرنسا إليها اليوم
تنفرد فرنسا اليوم بإرسال أعداد من مواطنيها اليهود إلى إسرائيل. يأتي ذلك ضمن خطة استراتيجية تعتمدها حكومة بنيامين نتنياهو تهدف إلى «إنقاذ اليهود الفرنسيين» أو استقطابهم كمهاجرين إلى إسرائيل، في ظلّ تراجع نسبة المهاجرين وارتفاع نسب الهجرة المعاكسة. فأعلنت وزارة الاندماج الإسرائيلية أن «3348 يهودياً هاجروا من فرنسا إلى إسرائيل في العام 2013 بزيادة نسبتها 70 في المئة، في حين أن العدد لم يزد عن 1972 يهودياً في العام 2012». وشرح المدير العام للوزارة عوديد فورير: «استقبلنا حتى الآن منذ مطلع العام، 717 شخصاً». في المقابل، أوردت صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية ما يفيد عن توجّه عدد يقارب 854 يهودياً فرنسياً إلى إسرائيل في الفترة الممتدة ما بين مطلع كانون الثاني ونهاية شباط 2014، في مقابل 274 خلال المدة ذاتها من العام الماضي. وقال فورير إن الوزارة تسعى إلى استقطاب عدد مهاجرين يهود من فرنسا إلى إسرائيل يصل إلى 4000 مهاجر في العام 2014، و5000 في العام 2015، و6000 في العام 2016. تلك هي خطة السنوات الثلاث التي وضعتها حكومة نتنياهو، بالتعاون مع تنظيمات يهودية في فرنسا أهمها «المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية» Le Conseil Representatif des Institutions Juives de France (CRIF) الذي يضم العديد من المنظمات اليهودية منذ 1977.
حملات الترغيب
تشمل الخطة زيادة في عدد المبعوثين الإسرائيليين، فقامت الحكومة الإسرائيلية مؤخراً بإضافة ثلاثة مبعوثين جدد إلى «الوكالة اليهودية» وثلاثة آخرين إلى عديد العاملين في السفارة الإسرائيلية في باريس، معظم هؤلاء ينتمون للأحزاب اليمينية، خاصة «إسرائيل بيتنا» الذي يتزعّمه أفيغدور ليبرمان، وحزب «البيت اليهودي» الذي يتزعمه تانيت. أضف إلى ذلك مبعوثين عديدين من الشباب سيتمّ توزيعهم على عدد من المدارس الفرنسية الخاصة التي تدرّس اللغة العبرية وتتناول دولة إسرائيل. الهدف هو تحريض اليهود على الهجرة، وتعزيز معسكر اليمين المتطرف في إسرائيل.
وتسعى الخطة إلى تحقيق أهدافها عبر خطوتين: الأولى قوامها الدعاية، والثانية قوامها الدمج. على مستوى الأولى، تمت زيادة الدعاية الإعلامية في فرنسا، التي تروج لمزايا الهجرة، وتسمي الهجرة «عاليه» وتعني «الصعود». كما تستخدم الدعاية الإعلامية عدداً من الشعارات أهمها: «عاليه» إلى بر الأمان في إسرائيل. ويركز طرح الدعاية الإعلامية على صورة اليهودي الضحية، والدور الإسرائيلي في جلبه إلى المكان الآمن الوحيد لليهود: إسرائيل، وتقدم أمثلةً على ذلك. فمثلاً، تكتب «الوكالة اليهودية» في موقعها الإلكتروني الرسمي:
«خلال السنوات الأولى من وجود إسرائيل، استوعبت البلاد مئات الآلاف من المهاجرين الجدد. في العام 1949، جلبت الوكالة اليهودية 3800 يهودي يمني إلى إسرائيل كجزء من عملية البساط السحري. في العام 1951، جاء 110000 من اليهود العراقيين كجزء من عملية عزرا ونحميا. في العام 1991، جلبت عملية سليمان 14300 من اليهود الإثيوبيين إلى إسرائيل جوّاً في 36 ساعة فقط. منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، أشرفت الوكالة اليهودية في «عاليه» (على هجرة) أكثر من مليون يهودي من تلك المنطقة».
كما تركز الدعاية التي تحضر في الندوات وورش العمل التي تعقدها «الوكالة» أربع مرات أسبوعياً، على تقديم مفصّل للمساعدات والإغراءات المادية للراغبين بالهجرة إلى إسرائيل: مساعدات السكن والتعليم والقروض والاعتراف بالرخص والشهادات الفرنسية في أغلب المجالات، وتسهيل الطريق أمام رجال الأعمال لفتح مصالح اقتصادية وتخفيض الضرائب وغير ذلك.
الخطوة الثانية التي تتمحور حول دمج المهاجرين الجدد في المجتمع الإسرائيلي، فتتم عن طريق إيجاد عمل وسكن إلخ. وقد اعتمدت الحكومة الإسرائيلية ميزانية بمبلغ 3,8 مليون يورو لإزالة ما سمته بـ«العوائق الإدارية»، وتسهيل اندماج الوافدين. ومن الجدير ذكره هنا هو أن الخطة تأتي في أعقاب عمليات الهجرة المتزايدة في أوساط يهود فرنسا نحو دولٍ أخرى كبريطانيا وكندا والولايات المتحدة.
«الأكثر إثارة ومتعة في العالم»
تروِّج المنظمات اليهودية والمندوبون لأشكالٍ من المغريات الخاصة باليهود الفرنسيين، في ظل ظروفٍ اقتصادية صعبة تعيشها فرنسا. إذ أشارت المفوضية الأوروبية في بروكسل إلى إخضاع وضع فرنسا لـ«مراقبة مشددة» بسبب «غياب التنافسية وارتفاع مستوى ديونها». كما أعلن «المعهد الوطني الفرنسي للإحصاء والدراسات الاقتصادية» أن إجمالي نسبة البطالة بلغ نسبة 8.9 في المئة خلال الربع الأخير من العام 2013. ومن الملاحظ أن الظروف الاقتصادية تؤدي دوراً بارزاً في ازدياد عدد روّاد الندوات والمعارض والمؤتمرات الدورية وورش أعمال والبرامج التعليمية والتطوعية الطويلة الأمد كـ«رحلة الماسة» – مشروع مشترك بين الحكومة الإسرائيلية والوكالة اليهودية في فرنسا -، «ومعرض سنوي» تشرف عليه الوكالة اليهودية بالتعاون مع شركة العقارات ICUBE الإسرائيلية.
تعدّ الجالية اليهودية في فرنسا ثالث أكبر جالية يهودية في العالم بعد جاليتي الولايات المتحدة وروسيا – إذ يوجد الآن نحو 600 ألف يهودي في فرنسا من أصل 13.4 مليون يهودي في العالم. ويحكي الإعلام الفرنسي عن شعور العديد من اليهود بـ«الاضطهاد» نتيجة ممارسات عنصرية متزايدة، كظاهرة الممثل الفرنسي الكوميدي «ديودونيه» الذي يوصف بالمعادي للسامية، ولليهود تحديداً. فتستخدم المؤسسات الصهيونية مواقفه كمادة رئيسية لتحريض اليهود الفرنسيين وتخويفهم بزعم أن «كارثة محتّمة» ستحل بهم تشبه تلك التي حدثت في أثناء الحرب العالمية الثانية.
وتستند دعاية المؤسسات الصهيونية بين يهود فرنسا على أيديولوجيا دينية متعصبة، بعيداً عن لغة العصر ومنظومة القوانين والاتفاقات والقرارات التي تعتبر مرجعية للصراع العربي والفلسطيني الإسرائيلي، وللعلاقات الدولية بشكل عام. إذ تنكر الدعاية الصهيونية المنهجية أي وجود وأي حق للشعب الفلسطيني في وطنه، وتعتمد عوضاً عن ذلك شعار «أرض بلا شعب لشعبٍ بلا أرض»، وتلغي في خطابها وموادّها الدعائية حقيقة الصراع المستمرّ مع «السكان الأصليين»، الشعب الفلسطيني. هذا ما تحدثت عنه كارين (33 سنة – مهاجرة فرنسية يهودية سابقة إلى إسرائيل)، إذ تشرح لـ«السفير»: «لقد حضرت معارض وندوات مختلفة هنا على مدى سنوات، وقبل أن أهاجر إلى إسرائيل، ولم يخطر ببالي قط خلالها وجود شعبٍ آخر وصراعٍ تاريخي على الأرض. كانت العروض مغرية، خصوصاً في ما يتعلق بفرص العمل والدراسة، وتم تصوير إسرائيل كالدولة الأكثر إثارة ومتعة في العالم».
تنحدر أصول عائلة كارين من أفريقيا، ولكنها ولدت في فرنسا وتعتبر نفسها فرنسية تعتنق الديانة اليهودية. تقول كارين إن عائلتها قررت الرحيل بسبب الوضع الاقتصادي الصعب في فرنسا، بالإضافة إلى «زيادة اللاسامية» بحسب قولها.
وقد أظهرت دراسة أجــــــرتها «وكالة الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية» ونشرتها مؤخراً حول تصاعد معاداة السامية في أوروبا. وأظهرت الدراسة نتائج مثيرة في مـــــا يتعلق بفرنسا، إذ اعتبر 52 في المئة من اليهود الفرنســــــيين أن معاداة السامية «مشكلة كبــيرة جـــــــداً»، بينما وجدتها نسبة 33 في المئة «مشكلة كبــــيرة إلى حدّ ما». وبفعل ذلك، فإن نسبة 49 في المئة من اليهود المتواجدين في فرنسا يأخذون بعين الاعتبار إمكانية الهجرة، وليس بالضرورة إلى إسرائيل.
ديودونيه، مثلاً
في هذا السياق، من اللافت قيام أشخاص يمارسون أفعالاً عنصرية ضد اليهود، بـ«التضامن» مع القضية الفلسطينية. لكن هذا «التضامن» هو أشبه بالموقف الكيدي، لكونه لا ينطلق من مبادئ وقيم إنسانية، ولا يرتبط بالنضال الفلسطيني من أجل الحرية والعدالة وتقرير المصير.
ومثال فاضح عن ذلك يجسده الممثل الكوميدي ديودونيه مابالا، الفرنسي من أصل أفريقي (الكاميرون). إذ يثير جدلاً واسعاً في الإعلام الفرنسي، فيجد كثيرون أن أعماله، خصوصاً حركته الشهيرة التي ابتكرها في مسرحيته «الجدار»، معادية للسامية. الحركة، وهي عبارة عن حركة النازية معكوسةً «quenelle»، انتشرت في الأوساط الشبابية، حتى أن لاعب كرة القدم الفرنسي الشهير نيكولا أنيلكا قلّدها في الدوري الإنكليزي. كما رفضت أكثر من ثلاث مدن فرنسية استضافة عروض ديودونيه لأن أعماله مسيئة وتنتهك القوانين الفرنسية المتعلقة بالتحريض على الكراهية والعنصرية و«تنكر المحرقة»، حسبما صرّح رؤساء البلديات إثر إلغاء عروضه في مدنهم. وفي المقابل، يحظى ديودونيه بشعبية كبيرة. فمثلاً، أعماله على «يوتيوب» (وتقدر بمئات السكتشات) سجّلت مئات آلاف المشاهَدات. وبحسب صحيفة «ليبراسيون» و«باريس دايلي»، بلغت إيراداته 1.8 مليون يورو أوروبي في العام 2012. الجدير بالذكر هنا أن ديودونيه كان قد وقّع لائحة «يورو فلسطين» في العام 2002، وهي تتمحور حول «إنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية عبر الامتثال إلى قرار مجلس الأمن الدولي 242 والضغط على الاتحاد الأوروبي والحكومة الفرنسية لإجبار إسرائيل احترام قرارات الأمم المتحدة واتفاقيات جنيف». وقّع اللائحة أكثر من 12000 شخص، بحسب موقع «يورو فلسطين».
بنيامين (37 عاماً) هو شاب فرنسي، ترجع أصول عائلته إلى قبيلة بربرية في المغرب هاجرت إلى تونس ومن ثم رُحِّلَ والداه من تونس إلى فرنسا في العام 1963. تتشعب هوية بنيامين حسبما يشرح: «أشعر بأنني فرنسي بربري، يهودي، عربي.. لا أشعر بأية صلة تربطني بإسرائيل. بالنسبة إليّ، هي جزء من الأساطير الصهيونية التي تروّج فكرة أن إسرائيل هي المكان الآمن الوحيد في العالم لليهود». يقطن عددٌ لا بأس به من أفراد عائلة بنيامين في إسرائيل، ويشعر بأن عائلته الممتدة تضغط عليه دوماً لتــــــجريب الحياة فيها. فيقول له عمّه عبر الهاتف: «سيتوجّب عليك الرحيل إلى إسرائيـــــل عاجلاً أم آجلاً، ولن يكون أمامك وأمام عائلــــــتك أي خيار آخر للحياة في فرنسا». بنيامين لا يتفق مع الأفكار الصهيونية، ويرى نفسه خارج المجتمع اليهودي، «ليس من السهل أن تكون يهودياً، هناك ضغوط هائلة من المجتمع اليهودي تحكم عليك بقسوة».
وكحال بنيامين، عبّر الكاتب الفرنسي جاكوب كوهين (فرنسي يهودي من أصول مغربية) في معظم كتبه عن نقده للمؤسسات الصهيونية، وأوضح خطرها في المنطقة العربية، خصوصاً المغرب. في حالات كهذه، فإن المؤسسات الصهيونية تردّ بقسوة وهمجية على أي آراء يهودية غير صهيونية. فقد قد تم الاعتداء على كوهين من قبل مجموعة مسلحة تنتمي إلى المجلس التمثيلي للهيئات اليهودية في 12 آذار 2012، وكان ذلك في أحد مقاهي «ســـــان جيرمان» قرب باريس، حيث كان يقدّم كتابه حول القضية الفلسطينية في لقاء أدبي. كما قام المعتدون بتصوير حادث الاعتداء، وتداولوه إلكترونياً.
ثمة عملية خلط بين معاداة السامية وبين نقد الصهيونية والعنصرية والإحتلال الإسرائيلي والدعوة إلى مقاطعة إسرائيل لكونها دولة احتلال. فالأخيرون يسمّون نشاطهم «معاداةً للصهيونية»، وغالباً ما تقوم المؤسسات اليهودية والصهيونية ودولة إسرائيل بترجمة أي مبادرة تسعى لإدانة الاحتلال الإسرائيلي بـ«معاداة السامية». كوهين اتهم الحكومة الفرنسية بالتواطؤ مع المنظمات الصهيونية، خصوصاً بعد تقديمه الشكوى مرتين ضد المعتدين. لم تستجب السلطات للشكوى بإحـــــداث أيّ تدخّل قانوني. فقال في رسالته الاحــــتجاجية التي وجهها إلى وزير الداخلية الفرنسي مانويل فالس:
«إنكم في كل مرة، ومثل كل سلطات الجمهورية، وفي المقــــــام الأول: رئيس الجمهورية، أكدتم على مساندتكم المطلقة والدائمة لـكريف (المجلس التمثيلي لهيئات يهود فرنسا) ولذراعه المســـــلحة (رابطة الدفاع عن اليهودية)، ذات الممارســـــــات الفاشية، وهذا فعل خضوع مقرف. أترك لكــــم أن تتصور لو كنت كاتباً صهيونياً عضواً في كريف، وتم الاعتداء عليك من قبل إسلاميين. في هذه الحالة، ستحدث ضجة كبرى! ليس لديكم روح عدالة، ولا إرادة لاعتماد سياسة متوازنة. سيحاكمكم التاريخ».
بعد الجذب، الاستقرار ممكن؟
قد تنجح المؤسسات الصهيونية بجذب أعداد أكبر من المهاجرين اليهود، ولكن السؤال الملحّ هو: هل سيجد هؤلاء الاستقرار في ظل دولة احتلال عنصرية؟ إذ تشهد إسرائيل هجرة معاكسة إلى خارجها، بزيادة نسبتها 10 في المئة في العام 2014 عن العامين 2012 و2013. إن التوازن بين الهجرة والهجرة المضادة يكاد يحرم المؤسسة الإسرائيلية من الزيادة المنشودة لليهود كأكثرية تبلغ نسبتها 80 في المئة من مجمل السكان. فقد بلغ عدد المغادرين في الأعوام الأربعة الماضية 26 ألف إسرائيلي. وهو عدد يقترب من نسبة الوافدين تحت بند الهجرة إلى إسرائيل. وتقول استطلاعات الرأي إن نسبة 40 في المئة من الإسرائيليين «يفكّرون» بالهجرة خارجها. وقد بلغ عدد الإسرائيليين المقيمين خارج إسرائيل 600-700 ألف إسرائيلي.
تقول كارين (33 سنة – مهاجرة فرنسية يهودية سابقة): «لقد اعتقدت أنني سأعيش حياة كريمة في إسرائيل، كما ادعت الوكالة اليهودية، ولكنني فوجئت بأنني أنتمي إلى مجموعة منبوذة في إسرائيل وهي «الفلاشا». العنصرية الموجودة في إسرائيل لا مثيل لها». لم تجد كارين فرصة عمل مريحة، فعملت عاملة نظافة: «المجتمع الإسرائيلي ينبذ الأفارقة بشكل مريع، وهذا أكبر دليل على عنصرية الدولة الصهيونية التي تدّعي أنها أقامت دولة من أجل كل اليهود. لقد اكتشفت أن هذا القول هو ادعاء كاذب، ما دفعني إلى العودة إلى بلدي فرنسا، ولن أعود هناك أبداً حتى للزيارة».
حدث اختراقٌ إســــــرائيلي محدود على مستوى القدرة على صناعة هـــــجرة يهودية من فرنسا وجذبها بحسب أرقام العـــام 2013 وبدايات العام 2014، ولكن هل سيتعزز الاختراق وتترجم الخطة الحكومية الإسرائيلية أم ستتعثر؟
صحيفة السفير اللبنانية – ريم عبد الحميد