هكذا تحوّل حصار سجن حلب إلى «دجاجة تبيضُ ذهباً»
برغم تحولّه إلى خبر يومي، ظلت حكاية حصار سجن حلب مليئة بالأسرار. وعلى رأسها نسفُ اتفاق سابقٍ كان كفيلاً بوضع حد لمعاناة السجناء، وإنهاء الحصار منذ عشرة أشهر. «الأخبار» تنشر بعضاً من هذه الخفايا.
تفاصيل كثيرة لا تزال مجهولةً منذ بدء الأزمة السورية. ملفات بقيت غامضة، وأخرى لم يُعرف من خفاياها إلا الجزء اليسير، من بينها قضية حصار سجن حلب المركزي. وتنشر «الأخبار» في ما يلي متابعة لأوضاع السجناء، بعد فك الحصار، إضافة إلى تفاصيل تتعلّقُ بالحصار، ظلّت محجوبة عن التداول.
مجموعات مسلحة عدة أدت أدواراً في الحصار الطويل، أبرزها «حركة أحرار الشام»، التي بقيت حاضرةً منذ بدء الحصار، حتى تمكن الجيش السوري من فكّه. وتشاركت منذ مطلع عام 2013 مع «لواء التوحيد» و«جبهة النصرة» و«الدولة الإسلامية في العراق والشام» في محاصرته (لم تكن فصول الحرب بين «داعش» ونظرائه قد بدأت بعد). سعى المسلحون إلى تحقيق هدفين ثانويين، هما ضمّ بعض السجناء بعد «تحريرهم» إلى صفوفهم، والإفادة من الموقع الاستراتيجي للسجن، أما الهدف المباشر والأساسي، فيتمحورُ حول إطلاق عشرات السجناء «الإسلاميين». ينتمي معظم هؤلاء (عددهم 61) إلى تنظيم «جند الشام». وقد نُقلوا من سجن صيدنايا الشهير الواقع قرب دمشق، في بدايات الأزمة، حيث كانت حلب تعيش استقراراً تاماً. وتربطهم بفارضي الحصار «أخوّة جهادية».
مفاوضات واتفاق فك حصار
بعد شهور من الحصار، فوّض المسلحون «أحرار الشام» ممثلا عنهم للتفاوض مع الدولة السورية بغية التوصّل إلى اتفاق لإطلاق «الإسلاميين». وفي تموز 2013، أُبرم اتفاقٌ مبدئي بوساطة من «مبادرة أهالي حلب» يقضي بما يلي:
1ـ إخلاء سبيل عدد من المساجين السياسيين الاسلاميين (لم يحدد العدد وتُرك الأمر مفتوحاً للتفاوض)، مقابل إخلاء سبيل 18 ضابطاً سوريّاً (كانوا قد وقعوا في قبضة المسلحين في أوقات
سابقة).
2ــ رفع الحصار عن السجن، والسماح بإدخال المواد الغذائية والطبية والمازوت وكل مستلزمات الحياة داخل السجن (وبكميات كبيرة تسد احتياجات السجن عاماً كاملاً).
3ــ إدخال فريق طبي إلى السجن وإخلاء الجرحى من السجناء ورجال الجيش والشرطة.
4ــ السماح بإدخال لجنة قضائية لتدرس أوضاع السجناء تمهيداً للإفراج عمن يسمح القانون بالإفراج عنهم، سواء الذين أنهوا فترات سجنهم وفق الأحكام القضائية التي طاولتهم، أو الذين شملتهم مراسيم العفو المتتالية (كان عددهم يُقدر حينها بـ 1200 سجين).
كان الاتفاق مقبولاً من جميع الأطراف، لكن ولسبب مجهول
تدخّل في الأمر وسطاء جدد، فاستبعدت «مبادرة أهالي حلب» وحلّت محلّها منظمة الهلال الأحمر السوري، وبعثة الصليب الأحمر الدولية (وعلى وجه التحديد المندوبة الميدانية لشؤون حلب وإدلب في بعثة الصليب الأحمر هند عاقولي، العراقية الجنسية، التي اضطلعت بدور محوري في استبدال الوسطاء، ويمكن اعتبارها عرابة الاتفاق الجديد).
أفضت الجهود سريعاً إلى اتفاق ثانٍ، خلاصتُه قيام «الهلال الأحمر» يومياً بنقل خمسة آلاف وجبة مطبوخة تكفي ليوم واحد فقطً بدلاً من الاتفاق السابق الذي يقضي بتأمين مؤن تكفي عاماً كاملاً دفعة واحدة. وفيما يتيح بند الغذاء في الاتفاق السابق حصر النفقات وضبطها بسهولة، فإن البند الجديد يفتح الباب أمام إنفاق مستمر، ومفتوح (في كلا الاتفاقين كانت المنظمات الإغاثية مسؤولة عن الإنفاق). كذلك، نص الاتفاق الجديد على سماح المسلحين بدخول اللجنة القضائية، ليجري لاحقاً الإفراج يومياً عن عشرة سجناء ممن انتهت أحكامهم (بدلاً من الافراج عن 1200 سجين دفعة واحدة في الاتفاق الأول). وعلى أن يُفرج عن ضابطين من الجيش لقاء إخلاء سبيل ستة اسلاميين، ويُنظر في وضع بقية الاسلاميين لاحقاً. وعندما يخلى سبيل سجين «إسلامي» يقوم المحاصِرون بتسلمه فور خروجه من السجن، فيما يشرف «الهلال الأحمر» على تسليم السجناء الآخرين إلى عائلاتهم. ولم يقض الاتفاق الجديد برفع الحصار، ولم يسمح بدخول فريق طبي أو بإخراج الجرحى.
دخلت معاناة نزلاء السجن فصلاً جديداً وطويلاً، وأصبح الجوع شبحاً مخيّماً عليهم، حيث لا يعلمون إذا أكلوا اليوم، هل يجوعون غداً. إذ تتحكم الاشتباكات الدائرة في محيط السجن في دخول الوجبات إليه. ولم يجرِ توفير أي معونات طبية، سواء للسجناء أم للمدافعين عن السجن. أما القاضي الذي توجه إلى السجن لدراسة أوضاع السجناء، فقد استهدفته طلقةٌ قرب باب السجن، أطلقها قنّاص من «معسكر المسلحين» برغم سماحهم بدخول الأطعمة يومياً. وأعلن هؤلاء أنهم ملتزمون الاتفاق، وأن استهداف القاضي كان تصرفاً فردياً، لكنّ القضاة امتنعوا عن زيارة السجن بعد إصابة زميلهم في وجهه. وصارت أوضاع السجناء تُدرس عن بعد، في القصر العدلي في حلب. وشقّ الفساد طريقه إلى الملف، فنشأت مافيا متخصصة في إطلاق السجناء المنتهية أحكامهم. وبات على ذوي السجين الراغبين في استعجال دوره للخروج من جحيم السجن أن يدفعوا مبلغ مائتي ألف ليرة سورية، وكلما طالت مدة الحصار ارتفع المبلغ، ليصل آخر أيام الحصار إلى خمسمئة الف.
كان الهلال الأحمر يتلقى عبر قيادة الشرطة لائحة من اللجنة القضائية، تضمُّ ستة أو سبعة أسماء فقط في كل مهمة، ليجري إخراجهم من السجن. وأحياناً كان يُخرَج سجناء إسلاميون معهم، وتتسلمهم «أحرار الشام» فوراً. وقد بلغ العدد الإجمالي لهؤلاء 20 سجيناً. تعرقل تنفيذ الاتفاق مرات كثيرة. واستمر محاصرو السجن في توجيه الضربات إليه، وفي محاولات اقتحامه. وأدى «الإعلام الثوري» دوره، عبر الترويج لفكرة أن الهدف هو تحرير جميع السجناء البالغ عددهم 4000. كذلك روّج أن السجينات هنّ من «حرائر الثورة»، برغم أنهن جميعاً سجينات جنائيات.
جناح الإسلاميين Hi tech
دخل الجيش السوري إلى السجن بعد فك الحصار عنه، وجرى إخطار السجناء الاسلاميين (الموجودين في جناح مستقل) بوجوب مغادرة جناحهم وهم عراة، توخيّاً للحيطة الأمنية، وخاصةً أن خفايا هذا الجناح كانت مجهولة تماماً في ظل الحصار، ولم يدخله أي شرطي طوال مدة الحصار.
نفّذ السجناء الأوامر (كان قد بقي منهم 40، بعدما أُطلق20، وقضى واحدٌ منهم أخرج الهلال الاحمر جثمانه وسلمه لـ«أحرار الشام»). دخلت شرطة السجن الجناح لأول مرة منذ الحصار، حيث عُثر فيه على عشرات الهواتف الخلوية، وعلى أحد عشر حاسوباً محمولاً، ومواد متنوعة.
كذلك تبيّن أن السجناء اقتلعوا بلاط أرضية الجناح، وعبأوا الأتربة الناتجة عن العملية في أغلفة المخدات، والفرش. وحولوها إلى «دشم» لصد أي محاولة إطلاق نار قد تستهدفهم، ولم يُعثر على أسلحة في حوزتهم.
مآل السجناء
نُقل السجناء الإسلاميون إلى منشأة حكومية في أحد الأحياء السكنية، ووضعوا تحت حراسة مشددة، فيما نقلت السجينات إلى مركز الملاحظة (بيت القاصرات) في حيّ الجميلية (عددهن 75، ومعهن خمسة أطفال. فوفقاً للقانون السوري يحق للأم المسجونة احتضان طفلها داخل السجن، وخاصة في فترة الإرضاع. ثم تخيّر بين وضعه عند العائلة، أو في مركز إيواء تابع للدولة، أو إبقائه معها).
أما السجناء الذكور (عددهم 2300)، فنُقلوا إلى مدرسة الوحدة في حيّ جمعية الوحدة المجاور لحي الشهداء (كانت تستعمل مركزا لقوات الدفاع الوطني سابقاً). عُزلت المدرسة أمنياً، ووضعت تحت حراسة مشددة، ووزع السجناء على ثلاثين غرفة صف (حوالى 75 شخصاً في كل غرفة، وتبلغ مساحة الغرفة 25 متراً مربعاً)، كما وُضع قسم منهم في خيم في باحة المدرسة، وهم مصابون بحالات متفاقمة من السل، وتحت عزل صحي. وأخيراً، باشرت اللجنة القضائية عملها، في دراسة أوضاع السجناء، وإخلاء سبيل من أنهى فترة حكمه (تجاوز عدد المخلى سبيلهم الـ300). كما تم إطلاق سراح 20 سجيناً بموجب عفو خاص (هم الذين ساهموا مع حامية السجن في الدفاع عنه).
يعاني جميع السجناء هزالاً وشحوباً كبيرين من مضاعفات الحصار، وسوء التغذية. ويرتدون أسمالاً بالية. وأثناء نقلهم من السجن المركزي توفي ثمانية منهم، ووُضع بعضهم وهم في حالة صحية حرجة في أقبية مستشفى الشرطة في حلب لمحاولة علاجهم.
في المدرسة دورة مياه واحدة، فيها ستة مراحيض فقط. وقد بُدئ بتجهيز مراحيض إضافية.
وتتولى جمعية الاحسان الخيرية تقديم وجبات غذائية للسجناء. توفي 830 سجيناً تحت الحصار، بسبب الجوع، وانتشار السل. أفرج على مراحل عن 940 سجيناً، وخمس عشرة سجينة.
صحيفة الأخبار اللبنانية – صهيب عنجريني