هشيم «النأي بالنفس»
صحيفة الثورة السورية ـ
بقلم (رئيس التحرير) علي قاسم:
في المنطق.. لم يكن الأمر بحاجة إلى أدلة، وقد تمّ الاسترشاد إليه عبر التحليل والمعلومة، وصولاً إلى الدليل، ولم يكن بحاجة إلى قرائن،
وقد أسهبت مواقف بعض القوى والشخصيات اللبنانية في الإفصاح عنه.
لكنه في القراءة السياسية وما ينطوي عليه من اعتبارات، فإن ما قدمته التسجيلات التي نشرتها صحيفة الأخبار وتلفزيون «أو تي في» يكفي لأخذه موضع إخبارٍ رسمي وموثّق، ليس بالجرم المسجل في اقتباس للعنوان، وإنما قرينة لتحرك يطوّق لهيب الاشتعال الذي أوقدته.
وفي المنطق أيضاً كان من المتاح فهم بعض الاعتبارات التي حكمت مواقف الكثير من السياسيين اللبنانيين، والتي بدت في بعض الأحيان حمّالة أوجه، وربما من الممكن أخذها في سياق تبريري آني، تحكمه بعض المعطيات السياسية الناتجة عن ضغط التطورات.
لكن في مواجهة القرائن والأدلة الدامغة، يصعب هضمها، أو على الأقل يصعب تجاهلها، والأصعب من هذا وذاك، تسويق المبررات التي تدّعيها، أو مناقشة الاعتبارات التي تحكمها، خصوصاً حين تتحرك بدوافع جرمية تقتضي الملاحقة الجنائية.
في حدثين متزامنين، جاء ما يقتضي التوقف والتمعن طويلاً في المشهد، حيث التسجيلات المنشورة التي تستدعي موقفاً سياسياً واضحاً يرتقي إلى مستوى ما تنطوي عليه من قرائن جرمية، والثاني في إخبار المصدر اللبناني عن مقتل عشرات المسلحين اللبنانيين في الأراضي السورية، الذين جاؤوا للقتال إلى جانب الإرهابيين، بخلفيات واضحة في التنظيم والتمويل والتحريض وصولاً إلى التجنيد.
جميعنا يدرك -حتى الإخوة في لبنان- أن لعبة «النأي بالنفس» نطقت بما لا يحق لها النطق به، واستشرت في التفاصيل، كما هي في العناوين، وتحديداً حين توظف في غير موقعها.. وهي المولود الحصري وغير الشرعي للأزمة في سورية.
في المجمل، تم التسليم بها كمبدأ ظاهرياً، سواء من الذين قبلوها وصدقوها، أم أولئك الذين شككوا بها ولم يقتنعوا فيها، ولا بالمبررات التي سيقت لوضعها بالتداول، وأصبحت الظل الذي يحكم الموقف اللبناني تحديداً، مما يجري في المنابر والاستحقاقات الدولية.
أما في الداخل اللبناني، فإن الذين كانوا يريدون أن يكون لبنان منصة لقصف سياسي تجاه سورية، هم أكثر من احتمى بها للتغطية على الممارسات التي تمت من تحت الطاولة، والتي جرفتهم ليكونوا طرفاً واضحاً متلبساً بالجرم، حتى وصل الأمر إلى الإعلان والمجاهرة بذلك، تحت عناوين وشعاراتٍ تلونت بتلون المرحلة واختلفت باختلاف المعطيات.
الواضح أن التجربة حتى الآن فاضحة، وأن سياسة «النأي بالنفس» تحولت لدى فريق لبناني واضح المعالم وبأشخاصه إلى سياسة الرمي بالنفس في النار، التي أوقدتها الضغينة على سورية وشعبها، والفارق بين الحالين، أن الوضع الرسمي الذي تذرّع بأن ظروفه لا تسمح بامتداد الاشتعال إلى الداخل، ولا يتيح تورطاً يذهب إلى التفجير، كاد يسوغ التورط!!
المسألة ليست تدخلاً سياسياً داعماً لإرهابيين تحت شعارات الحاجات الإنسانية الكاذبة، بل تورط جرمي بأركان جريمة كاملة، وإدارة مباشرة لأدوات الجريمة ومرتزقتها، مما يستدعي تحركاً، خارج هشيم «النأي بالنفس» ويجنب لبنان مخاطر الارتدادات المباشرة، ليس دفاعاً عن سورية ولا هو إلغاء لسياسة «النأي بالنفس» بل منع لالتباس يستظل به تيار سياسي بأفراده وشخوصه ونوابه!
وإذا كان بعض الساسة اللبنانيين يعتقدون أن القضية فردية أو شخصية يمكن أن تطمرها الحمولات السياسية المتخمة، فإننا نستطيع الجزم، منذ اللحظة أنها ليست كذلك ولا يمكن ان تكون، لأن ما يترتب عليها لا يقتصر على التبعات السياسية، على خطورتها، وإنما في ثمن الدم السوري الذي يراق نتيجة تلك الجريمة الموصوفة.
وحين يكون المعيار الدم السوري، فإن «النأي بالنفس» يصبح نكتة سمجة لا مكان لها في أروقة العلاقات، ولا في حسابات السياسة.
ما تورط به رئيس تيار سياسي لبناني ونائب في البرلمان يمثله شخصياً باعترافه، وغيره من النواب أيضاً من التيار، يستحق من الحكومة اللبنانية إجابات تقنع السوريين وتشفي غليل الأسئلة الموجعة لديهم، وتهدّئ من هواجس الطعن التي يتعرضون لها على أيدي اللبنانيين.
لا نحتاج تبريراً ولا شرحاً أو تفسيراً، وليس لدينا متسع من الوقت لهرطقة سياسية، بل إلى قرار صريح لا يكتفي بتجريم المتورطين، بل السعي إلى محاصرة الجمر الكامن تحت الرماد. فحين يتطاير شرر الأدلة والقرائن، فالنار المولعة لا تعترف بالحدود ولا تفهم «النأي بالنفس» خصوصاً حين يكون محاطاً بكل هذا الهشيم.