هزةٌ أرضية أعقبت زلزالاً سياسياً.. والقاهرة تجد طريقها إلى دمشق
موقع قناة الميادين-
السيد شبل:
كانت مصر التي تعاني أزمات اقتصادية وفوضى أمنية تسعى جاهدة لعدم خسارة الدعم الخليجي، وهو السبب الرئيسي لتعطّل الإعلان عن عودة العلاقات بين القاهرة ودمشق.
لم تكن الهزة الأرضية التي ضربت سوريا يوم السادس من شباط/فبراير، وتسببت بوفاة وإصابة الآلاف، الوحيدة التي أصابت بلادَ الياسمين، فهناك على مدار عقدٍ كامل زلزالٌ سياسي لا يمكن تحديد مداه عبر المقياس الذي طوّره العالم الفيزيائي تشارلز ريختر، بل يمكن رصده بمجرد النظر إلى حال محافظات حلب والحسكة والرقة وإدلب وغيرها قبل عام 2011 والآن في 2023، ليتبين حجم التخريب الذي لحق بالبلاد، كحاصل عمل تنظيمات متطرفة وحركات انفصالية لم تدخر وسعاً في خدمة مُموليها، فأطلقت الرصاص، ووزّعت المتفجرات، ونشرت اليأس والرعب، وحاولت دفع عقارب الساعة لتدور إلى الوراء.
4 أو 5 آلاف ضحية لقوا حتفهم على الأراضي السورية بسبب حركة الصفائح الصخرية في القشرة الأرضية، لكن هذا الرقم سيكون بحاجة إلى المضاعفة نحو 60 أو 70 مرة ليصل إلى عدد ضحايا العدوان الذي أدارته عقولٌ استخباراتية تنتمي إلى أصحاب البشرة البيضاء من المطلّين على شمال الأطلسي، وأصحاب البشرة الحنطيّة من العرب المطلين على الخليج، مروراً بأصحاب الأمر والنهي في هضبة الأناضول.
جميع هؤلاء، مدفوعين بغايات إسرائيلية في الأساس، اجتمعوا على “الصيدة”، على حد تعبير رئيس الحكومة القطرية السابق حمد بن جاسم، لكنّ المخططات فشلت في الوصول إلى غاياتها، نتيجة صمود الدولة في الداخل ودعم حلفائها وانقسام معسكر أعدائها.
مرت 12 عاماً من الحرب التي تسببت بنزوح الملايين ووقف عجلة الإنتاج والتنمية في البلاد، ولكن الولايات المتحدة الأميركية لم تكتفِ بأن تمدّ الانفصاليين بالأسلحة وتدفع حلفاءها لتعبئة بنادق المتطرفين بالذخائر وتوفّر الحماية للطائرات الإسرائيلية المعتدية.
واليوم، تتمادى في فرض عقوبات اقتصادية متتالية وصلت إلى ذروتها مع “قانون قيصر” نهاية عام 2019، الذي وضع مزيداً من العراقيل أمام الدولة السورية والمتعاونين معها على الصعيد التجاري، بالشكل الذي تسبب بانتكاسة مضاعفة للعملة الوطنية (الليرة)، وجعل الحكومة عاجزة عن تلبية مطالب المواطنين، وكان الهدف الأميركي بالأساس خنق الروح الوطنية في الداخل، التي تدرك أنها تدفع ضريبة الانحياز إلى الحق الفلسطيني والتموضع ضمن خيارات رفض الهيمنة الغربية.
يتحدّث المتضامنون مع سوريا اليوم في وجه الكارثة الطبيعية التي حلّت بها عن عدم جدوى الشعارات المرفوعة من دون مطالبات جادة برفع الحصار الذي يفرضه البيت الأبيض على دمشق، مؤكدين أن الأغلال التي يحيط بها الغربُ أيادي مؤسسات الدولة السورية هي التي تعطّل عملياً – ومن دون النظر إلى أي شيء آخر – مجهود الإنقاذ وتوفير المأوى والغذاء لجميع المتضررين.
في الصعيد المقابل، يقف جوزيف مانسو، ممثل الولايات المتحدة الدائم لدى منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، ليقول إن “تطبيع العلاقات مع النظام السوري أمر مرفوض”، ثم تتوالى التقارير الإخبارية من واشنطن لتؤكد بقاء العقوبات والاستمرار فيها.
في مواجهة زلزال شباط/فبراير الأليم، كان المواطنون الأتراك يبكون ذويهم الذين سقطوا بين قتيل ومصاب، بالضبط كما الحال في سوريا أو أكثر. وبحسب البيانات شبه الرسمية، توفي نحو 51 ألف شخص في كلا البلدين، منهم أكثر من 45 ألفاً في تركيا وحدها، إضافة إلى 120 ألف مصاب، ودُمرت وتصدّعت عشرات الألوف من المنازل.
ويكفي لتبين حجم الكارثة التذكير بأن الزلزال الشهير الذي ضرب مصر في 12 تشرين الأول/أكتوبر عام 1992 كان عدد ضحاياه نحو 560 قتيلاً، بحسب تصريحات وزارة الصحة ذلك الحين.
ورغم ارتفاع حجم المعونات التي قدمتها مؤسسات دولية وحكومات أجنبية لتركيا بالمقارنة مع سوريا التي تعاني جراء الحصار، فإن مدى الرضا عن أداء الدولة التركية بقيادة رجب طيب إردوغان كان متدنياً إلى درجة كبيرة، إذ تحدثت المعارضة داخل تركيا عن تأخر الحكومة في الدفع بقوات الجيش لأسباب سياسية تخص إدارة البلاد.
كذلك، أشارت صحف تركية إلى عمليات فساد تورط فيها مسؤولون عن ملف الصحة في تركيا، وأخرى تتعلق بالتهاون في تطبيق قواعد صارمة على عمليات البناء، تحت دعوى “تشجيع القطاع الإنشائي في البلاد”.
في كل الأحوال، يؤكد العاملون في مجال الخدمات العامة أن ما ينبغي التركيز عليه في اللحظة الحالية هو توفير الرعاية للمصابين والمأوى للمنكوبين، الأمر الذي يستدعي تكاتف جميع المؤسسات الدولية الناشطة في هذا السياق، ودفع الدول التي نجت من الكارثة إلى تقديم يد العون.
سامح شكري في دمشق: أن تصل متأخراً خير من أن لا تصل أبداً
دفع الزلزال المدمر الذي شهدته الأراضي السورية إلى إعلاء المشاعر الإنسانية على أي خلاف سياسي، إذ أجرى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي اتصالاً بنظيره السوري بشار الأسد يوم 7 شباط/فبراير، أكّد فيه تضامن مصر مع سوريا وشعبها، مشيراً إلى توجيهات بتقديم كل أوجه العون والمساعدة الإغاثية الممكنة في هذا الصدد.
بحسب المصادر الصحافية، فإن هذا الاتصال المباشر بين الرئيسين المصري والسوري كان يتم التجهيز له منذ عام 2019 على أقل تقدير، وذلك لإنجاز قفزة إلى الأمام في العلاقات بين البلدين، بعدما كانت قد انقطعت على يد الرئيس المصري الراحل محمد مرسي أثناء حكم جماعة الإخوان عام 2012.
بعد الاتصال بنحو 20 يوماً، وبعد 5 أيام من الذكرى الـ65 للوحدة المصرية السورية التي حصلت في زمن جمال عبد الناصر وشكري القوتلي، كان وزير الخارجية المصري سامح شكري يهبط في مطار دمشق الدولي، في أول زيارة لدبلوماسي مصري رفيع المستوى إلى دمشق منذ بدء الحرب في عام 2011، فيما اعتبر مؤشّراً على دفء العلاقات بين دمشق والعواصم العربية.
خيّمت حالة عامة من الودّ والتضامن على اللقاءات التي جمعت شكري بكلٍ من الرئيس الأسد ووزير الخارجية فيصل المقداد والصحافيين السوريين. وبدا تماماً أن القاهرة عثرت على طريقها الذي يُوصلها إلى دمشق بعدما ظلت تبحث عنه منذ 30 حزيران/يونيو 2013 وإزاحة الإخوان عن حكم البلاد.
بحسب الخبراء في مجال العلاقات العربية، فإنَّ الدولة المصرية، ورغم علاقاتها الوثيقة بعواصم الخليج، ظل موقفها الإستراتيجي إزاء سوريا متمايزاً؛ فالعقلية الإستراتيجية المصرية كانت تُدرك الصلة الوثيقة بين الأمن القومي المصري ونظيره السوري، كما كانت على وعي بأن الجماعات المتطرفة التي تقاتل “الجيش” وقوى الأمن داخل سوريا تحت راية المعارضة ليست إلا فروعاً من تنظيم “القاعدة” و”داعش”، وأنها جزء من الشبكة العنقودية ذاتها التي تطلق الرصاص على الجنود والضباط المصريين في شبه جزيرة سيناء وميادين القاهرة والجيزة.
كذلك، فإن السياسة الخارجية المصرية تلتزم علانية رفض سياسات التقسيم على أسس طائفية أو إثنية. وقد كانت على أتم الإدراك بأنّ ما يُعد لسوريا يندرج في هذا النطاق.
على المستوى الداخلي المصري، ثمة ارتياح لدى الرأي العام إزاء خطوة التقارب مع سوريا التي جاءت في إطار التضامن مع بلدٍ شقيق في مواجهة كارثة طبيعية، إذ يعي المصريون عمق العلاقات التاريخية بين البلدين، وأنَّ مصر على مدار التاريخ كانت، مدفوعةً بالحقائق الجغرافية والديموغرافية، تولّي وجهها شطر الشام لتحصيل القوة ورفعة المكانة، وأن العقل الاستعماري الغربي استهدف عبر مساندته نشأة الكيان الصهيوني قطع هذا التواصل الجغرافي بين مصر وسوريا، وخصوصاً بعد محاولة محمد علي الطموحة لتأسيس دولة عربية قوية ومُتحدّية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ناهيك أيضاً بانتصار تشرين الأول/أكتوبر 1973، حين تشارك الجيشان المصري والسوري في تحقيقه واختلط الدم بالدم.
بعد التحرر من “الفيتو السعودي”: العلاقات المصرية السورية إلى العلن
لم تشهد العلاقات بين القاهرة ودمشق انقطاعاً بشكل كامل، إذ أبقت مصر سفارتها مفتوحة في دمشق طوال سنوات الأزمة السورية، لكنها ربما خفضت مستوى التمثيل الدبلوماسي وعدد أفراد بعثتها، واستقبل البرلمان المصري السفير السوريّ لدى القاهرة بسّام درويش بالتصفيق في تشرين الثاني/نوفمبر 2019.
كذلك، رحّبت القاهرة بمدير إدارة الاستخبارات العامة السورية علي مملوك عام 2016 كأول زيارة معلن عنها أجراها إلى الخارج منذ اندلاع الحرب في 2011، وكانت في حينها رسالة من مصر بأنها تدعم سوريا تحديداً في وجه التدخلات التركية.
في السياق ذاته، ظل التعاون الأمني بين القاهرة ودمشق في أعلى مستوياته، ليس بحكم الإخوة العربية وحدها، ولكن بحكم مصلحة البلدين في دفع خطر الإرهاب الذي يهددهما. وبحسب تحليل بنية التنظيمات المتطرفة التي هددت الشعبين، يتبين تطابق الأيدولوجيا وتماثل التكتيكات المتبعة في التفجيرات أو الهجوم على المنشآت الأمنية.
إضافة إلى ذلك، ثمة عناصر بشرية متطرفة قضت العقد الماضي تنتقل بين مصر وسوريا. ومن دون التنسيق الأمني العالي المستوى، لم يكن من الوارد اصطياد تلك العناصر وشلّ حركتها.
لكن رغم المواقف المصرية التي يمكن وصفها بالإيجابية أو غير العدائية تجاه الدولة السورية على أقل تقدير، ظلت القاهرة تتحاشى الإعلان عن دعمها الصريح للنظام السوري، وأبقت على عمليات التنسيق الأمني والاستخباراتي من دون إعلان رسمي، ومرّت السنوات التسع الماضية، فيما القاهرة تحاول أن توازن بين موقفها تجاه سوريا ورغبتها في عدم إثارة غضب الرياض التي كانت تملك موقفاً عدائياً بشكل جذري ضد الأسد، وتخطّط لإسقاطه انتقاماً منه ومن حليفته الأساسية إيران.
كانت مصر التي تعاني أزمات اقتصادية متتالية وفوضى أمنية في الداخل تسعى جاهدة لعدم خسارة الدعم الخليجي، وهذا ما يعتبره المختصّون السبب الرئيسي في تعطّل الإعلان عن عودة العلاقات بين القاهرة ودمشق، لكنّ الأمور تبدّلت كثيراً اليوم، فالرياض لم تعد عدائية تجاه النظام السوري، كما كانت الحال سابقاً، وبالتالي تحررت القاهرة من “الفيتو السعودي”، وجاء الزلزال ليمنحها المبرر الإنساني لدفع العلاقات خطوات كثيرة إلى الأمام.
هنا، لا يمكن تجاهل الدور الإماراتي في دفع مصر نحو اتخاذ الخطوة التي ترغب فيها ولكنها تتردد باتخاذها، فأبو ظبي كانت سبّاقة إلى اتخاذ مواقف باتجاه تطبيع العلاقات مع دمشق؛ ففي عام 2018، تمت استعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2021، زار وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد سوريا. وفي آذار/مارس من العام التالي، طار الأسد إلى الإمارات، والتقى كبار مسؤوليها، وسط انتقادات أميركية لهذه الخطوات المتتالية.
انحسار التأثير الأميركي الرافض تطبيع العلاقات مع دمشق
تؤكد الإدارة الأميركية في كل تصريحاتها رفضها استعادة دمشق عافيتها الدبلوماسية، وتعارض أي خطوة تتخذها أي دولة عربية أو غير عربية باتجاه استعادة العلاقات مع الدولة السورية. رغم هذا، فإن ثمة جُملة من الأسباب تمنع أن يكون للموقف الأميركي المتعصب تجاه نظام الأسد تأثيراته السابقة، هي:
1- ضعف الحضور الأميركي دولياً خلال فترة حكم جو بايدن لأسباب سياسية داخلية، ولأسباب تتعلق بنمو أقطاب جديدة حول العالم خففت من تأثير البيت الأبيض.
2- انشغال الإدارة الأميركية بالحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، وحاجة المؤسسات الأميركية إلى التركيز على هذا الملف لإلحاق هزيمة عسكرية بالجيش الروسي تمتد إلى هزائم أخرى في الميادين الاقتصادية والسياسية.
3- منذ فترة حكم باراك أوباما وخلفيته دونالد ترمب، تشعر الولايات المتحدة بالخطر من تنامي قوة الصين دولياً، وبالتالي تسعى للتخفيف من حضورها في عدد من المناطق في العالم، ومنها منطقة الشرق الأوسط، لمصلحة التركيز على الخطر الصيني.
4- صمود النظام السوري في وجه العواصف العاتية التي تعرض لها على مدار الأعوام الماضية، الأمر الذي وجه رسالة إلى مختلف دول العالم بأنه ثابت في موقعه، وأن التطبيع معه أمر لا مفر منه، حتى لو لم يكن هذا المسار يتوافق مع الرغبة الأميركية.
مقعد سوريا الخالي في الجامعة العربية: هل من جديد؟
عندما وجّه الصحافيون سؤالاً إلى وزير الخارجية المصري في دمشق حول رفع تعليق عضوية سوريا في الجامعة العربية، لم يرد، ربما لأسباب تتعلق برغبة الإدارة المصرية في عدم استباق الخطوات أو التورّط في الإعلان عن أمورٍ لم يتم تنسيقها بالشكل الكافي مع حلفائها.
الانقسام حول عودة سوريا إلى الجامعة العربية لا يزال قائماً، فالرياض، رغم استعدادها لقبول الحكومة السورية، تتحفظ على علاقة دمشق بطهران. أما الدوحة، فهي حتى اليوم أبعد العواصم العربية عن قبول النظام ذاته.
في الجهة المقابلة، لم يتردد وزير الخارجية الإماراتي منذ عامين في المطالبة بعودة سوريا إلى الجامعة، وإن كانت وسائل الإعلام الإماراتية فسّرت هذا المسعى بأنه “إحدى وسائل حماية الأمن القومي العربي ومواجهة التدخلات الإيرانية والتركية بشكل خاص في المنطقة”. أما الجزائر ولبنان والعراق، فهي جميعاً في صف عودة سوريا بلا شرط أو قيد.
من المعلوم أنّ العرب عام 2011 لم يذهبوا إلى حد إلغاء المقعد السوري، بل جمدوه. والآن، يقول الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط ومستشاروه: “إنَّ العودة مرهونة بتوافر ظروف معينة داخل سوريا وداخل الإطار العربي”.
في الشهور المقبلة، لا شكّ في أن مسألة عودة سوريا لشغل مقعدها الخالي في الجامعة العربية ستكون محل نقاش واسع، أغلبه سيدور داخل الغرف المغلقة، وستتقدم بعض العواصم العربية لتقوم بدور الوساطة بين الأطراف المختلفة للتقريب بين وجهات النظر المتعارضة.
وربما تكون أبو ظبي والقاهرة هما أهم عاصمتين عربيتين مرشحتين للقيام بهذا الدور، نظراً إلى تفاهمهما مع دمشق منذ مدة طويلة وعدم تورطهما في تأجيج الحرب هناك خلال السنوات الماضية، ومن جهة أخرى تقاربهما مع الأنظمة العربية ذات الثقل التي لا تزال تملك موقفاً رافضاً لعودة سوريا إلى الجامعة.