هذه هي خطّة واشنطن العسكريّة للعراق… وهذا هو مداها
في نهاية شباط 2009، أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما بداية حقبة جديدة بقوله: “إسمحوا لي أن أقول هذا بكل وضوح ممكن: بدءاً من 31 آب 2010، ستنتهي مهمّتنا القتالية في العراق”. وفي بداية آب 2014 الحالي سقطت هذه المقولة من جديد، بأوامر مباشرة من أوباما نفسه، تحت شعار حماية الأقليّات التي تتعرّض للإبادة، حيث إستهدفت الضربات الجويّة الأميركيّة التي نفّذتها طائرات هجوميّة حديثة من طراز F/A-18 Hornet وطائرات من دون طيّار، آليّات عسكريّة ومرابض مدفعيّة ومدافع هاون وبعض مراكز التجمّع التابعة كلّها لتنظيم “الدولة الإسلامية” الإرهابي. فما هي الأسباب الفعليّة لهذا التحرّك العسكري الأميركي المُستجدّ، وإلى أي مدى يُمكن أن يصل؟
أوّلاً: وقف تمدّد مقاتلي “داعش” في شمال العراق، لأنّه بات يُهدّد المصالح الأميركية في كردستان-العراق، حيث تعمل العديد من الشركات الأميركية والغربيّة الحليفة، وهذا ما لا يُمكن أن تسمح به واشنطن، خاصة وأنّها تعوّل على الحضور الكردي الفاعل في العراق، عسكرياً وسياسياً وإقتصادياً، لإيجاد التوازن المطلوب مع الحكومة المركزيّة في بغداد.
ثانياً: منع وقوع المزيد من الآبار المهمّة لإستخراج المشتقّات النفطيّة في أيدي المسلّحين الإرهابيّين. وإذا كان تنظيم “الدولة الإسلامية” قد سيطر على بعض الآبار حالياً، فإنّها تبقى محدودة مقارنة بما يُمكن أن تقع عليه يداه في حال إقتحام كركوك على سبيل المثال لا الحصر. وهذا أيضاً لا يُمكن أن تسمح به واشنطن لأنّه يُعرّض التوازنات المالية-الإقتصادية المرتبطة بالقطاع النفطي للإهتزاز، ويؤمّن مردوداً مالياً خطيراً للتنظيم الإرهابي. أكثر من ذلك، إنّ منطقة اربيل الواقعة تحت السيطرة الكرديّة تحوّلت إلى ملاذ آمن بدلاً من بغداد، لكل من يرغب بموطئ قدم سياسي أو إقتصادي في العراق، ولا يُمكن التفريط بهذا الإنجاز أيضاً.
ثالثاً: منع سقوط بغداد بأيّ شكل من الأشكال في أيدي مسلّحي “الدولة الإسلامية” الذين أظهرت أحداث الأسابيع القليلة الماضية أنّهم يتحرّكون في مناطق ذات أغلبيّة سُكانية سنّية، أو مختلطة لجهة تضمّنها أقليّات مذهبيّة أو عرقيّة محدّدة إلى جانب السُنّة، وذلك بهدف تسريع عمليّة سيطرتهم الميدانية، مستفيدين من بيئة حاضنة لهم من جهة، ومن تحرّك مجموعات محلّية ناقمة على السلطات المركزيّة الحاكمة من جهة أخرى. وتبقى العاصمة العراقية في طليعة أهداف “الدولة الإسلامية” كونها مختلطة مذهبياً، وحاسمة من حيث الثقل المعنوي على مجمل الوضع العراقي. لكن مصالح كل من واشنطن وطهران تلتقي على منع سقوط بغداد بأيّ ثمن، لما لهذه الخطوة من تغيير إستراتيجي في الواقع القائم في كل منطقة الشرق الأوسط. والتغطية الجويّة الأميركية ستكون جاهزة لمساندة الجيش العراقي والميليشيات المختلفة التي تُؤازره، لصدّ أيّ هجوم محتمل على بغداد في المستقبل.
رابعاً: الإمساك بورقة تفاوض مهمّة جداً مع النظام العراقي الحاكم حالياً، ومن خلفه إيران، لجهة تقديم المساعدة العسكرية بشكل متحرّك ومضبوط بساعة تلبية المطالب الأميركية من كل من بغداد وطهران، خاصة في ملف إقامة حُكم متوازن لا يكون واقعاً كلياً تحت القبضة الإيرانيّة، وكذلك في ملف المفاوضات النوويّة وبنود الإتفاق النهائي المنشود.
إذاً، لا علاقة للأقليّات المسيحية أو اليزيديّة أو غيرها بالتدخّل العسكري الأميركي في العراق، وتهجير هذه الأقليّات المُمَنهج سيستمرّ للأسف. كما أنّ تأثير الضربات الجويّة الأميركيّة على مجريات المعركة ككل في العراق يبقى محدوداً على المستوى الإستراتيجي، وإن كان قد يُغيّر بعض التفاصيل التكتيّة. فبغضّ النظر عن سقوط مدينة أو بلدة بيد “الدولة الإسلامية” من هنا، وعن إسترجاع مدينة أو بلدة من قبل الجيش العراقي أو قوّات البشمركة من هناك، تبقى خطّة تقسيم العراق قائمة ومُتواصلة عسكرياً وديمغرافياً. ومن الضروري التذكير أنّ خطّة تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات مذهبيّة وعرقيّة (شيعيّة وسنّية وكرديّة) ليست سرّية، حيث يوجد لها مُنظّرون كُثر، في طليعتهم نائب الرئيس الأميركي جوزيف (جو) بايدن الذي يعتبر أنّ نموذجاً فدرالياً للعراق يُمكن أن ينجح على غرار ما حدث في دولة يوغوسلافيا السابقة التي إنفرط عقدها سلمياً في البداية بعد سقوط الإتحاد السوفياتي السابق، ليتمّ بعد ذلك تقاسم الدويلات التي إنبثقت بنتيجة حرب أهليّة طاحنة إنتهت بتدخّل غربي. ومن غير المُتوقّع أن يأخذ التدخّل الأميركي بُعداً يسمح بإستعادة كامل المناطق التي سيطر عليها إرهابيّو “الدولة الإسلاميّة”، لكنّه بالتأكيد سيقلّص من سرعة التوسّع الجغرافي لهذا التنظيم، وسيُشكّل ورقة تفاوض ومساومة بين واشنطن من جهة وكل من بغداد وطهران من خلفها من جهة أخرى.
ناجي س. البستاني – موقع النشرة الإخباري