هذا النصر لنا
موقع العهد الإخباري-
غسان سعود:
عبثاً حاولت في السنوات الماضية استعادة تفاصيل تلك اللحظات: في أي مكتب من مكاتب صحيفة الأخبار كنا نتابع خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، ماذا قال قبل تلك العبارة، كيف هرعنا إلى المصعد، بأي طريق ركضنا صوب عين المريسة، وبماذا كنا نفكر فعلاً، والأهم الأهم: من أين جاء كل أولئك الناس وكيف سبقونا ليبحثوا عنها ويروها تحترق.
كان البيت في الطابق الثاني من مبنى قديم متصدع في أحد الشوارع المتفرعة من شارع لبنان في الأشرفية؛ الشارع الشهير ببيوته الرائعة على تخوم “هوفلان” والسوديكو وغيرها من الأحياء الراقية. ومع كل ضربة إسرائيلية للضاحية كان المبنى المتصدع يعبر عن تضامنه بأحسن ما يكون، فتنخطف أنفاسنا بضع دقائق ثم نفتح أعيننا لنتخيل أولئك الذين عجزوا عن فتح أعينهم بعد أن احتجزتهم الأنقاض.
في الحرب هناك دائماً هذا الشعور بالعجز الهائل المدمر القاسي أمام كل ما تمعن فيه إسرائيل عن قصد. وهناك الأخبار السياسية المملة، وهناك الأخبار العسكرية التي تنقسم عادة بين إيجابية وسلبية، وهناك تلك الضربة التي تصنع بواسطتها التاريخ.
ما بعدها لا يشبه أبداً كل ما قبلها؛ كانت تلك البارجة هناك منذ بداية الحرب؛ كنا نراها تقصفنا مباشرة على الهواء، كنا نراها هناك تتباهى بإجرامها وكنا نرى أشلاء المدينة والأحياء والمنازل وذكريات الناس والناس يتشظون. وفجأة خرج الأمين العام لحزب الله عن النقاط المحددة مسبقاً بالخطاب.
كانت المفاجأة الأولى هي خطف الجنود الاسرائيليين، وها هي المفاجأة الثانية؛ نراها مباشرة على الهواء، نرى تلك الحقودة تحترق بإشارة من إصبعه. “ها هي هناك في عرض البحر، تحترق”. “ها هي هناك في عرض البحر، تحترق”. ونركض؛ كأننا نقفز من الطابق السادس في مبنى الكونكورد حيث جريدة الأخبار، نقفز فوق منطقتي الحمرا ورأس بيروت لنطل برؤوسنا وسط الجموع عند عين المريسة لرؤيتها تحترق.
تحقق الانتصار، وخرجنا في الشوارع نرقص فوق أنقاض الإرباك الإسرائيليّ. ففي ظل التوازن الذي كان قائماً، كان يكفي مفاجأة صغيرة من إحدى الجهتين لتعديل موازين القوى وفرض توازن جديد لمصلحة الفريق الذي فاجأ عدوه. مفاجأة تلاها مفاجآت طبعاً.
“انظروا إليها تحترق” في كف، وكل الحرب في الكف الآخر، صفعة كصفعة إحراق الميركافا وأكثر. صنعت تلك العبارة حرباً خاصة وكانت بمثابة إعلان مبكر جداً عن الانتصار، ولم يكن مطلوباً منذ تلك اللحظة سوى منع “إسرائيل” من تسجيل أية نقطة ميدانية لتحقيق التعادل.
ثم يأتي مهرجان النصر، ونراه هناك؛ نوراً من نور، في وضح الشمس؛ نكاد نلمسه بأعيننا. حرب بعد الحرب، انتصار بعد الانتصار. انتصار كنا جزءًا منه، نتلفت غير مصدقين، هذا النصر لنا، لكل شخص أن يختار أن يكون جزءًا من الانتصار أو جزءًا من الهزيمة. كنا في صف المنتصرين. هزمنا أعتى قوة عسكرية في المنطقة، مدعومة من أوقح قوة عسكرية في العالم. هزمناهم سوياً؛ البعض يقاتل جسدياً والبعض معنوياً. سنخبر أولادنا بكل شيء؛ سنصطحبهم إلى وادي الحجير ومارون الراس ونخبرهم عن الميركافا ونفتح لهم الـ “يوتيوب” ليشاهدوا ما شاهدناه، نحن من سنكتب التاريخ هذه المرة. سيشاهدونها في عرض البحر تحترق، سيشاهدونه هناك على المنصة في وضح الشمس يرفع شارة النصر، ويرفع بقبضته قبضة سمير القنطار.
ما زرعته المقاومة في تلك اللحظات، وما سنواصل زرعه ما حيينا لا يمكن لتشويه إعلاميّ أن ينال منه، لا يمكن للجمعيات الممولة من الولايات المتحدة وشركائها أن تغير من طبيعته. شاهدنا بأعيننا كيف ولى زمن الهزائم. أخرَجَنا أولئك الأبطال من مرحلة وأدخلوننا مرحلة أخرى. حرب تموز ليست ذكرى عادية، أو حدثاً عادياً بطبيعة الحال.
حرب تموز أنهت مرحلة وأعلنت بداية مرحلة أخرى، سجلت فلسطين في “سيف القدس” أحد أبرز تجلياتها.
وبالتالي، كان لا بدّ من استنفار اسرائيلي أميركي مختلف، كان لا بد من استحداث تراكم حروب أمنية سياسية مذهبية إعلامية تكفيرية. حروب بالجملة والمفرق. فشل الجيش العسكري، فليستخدم الجيش المدنيّ إذاً والإعلامي والاستخباراتي والسياسي والتكفيري والاقتصادي والتجويعي وكل ما من شأنه إضعاف المقاومة أو شغلها بنفسها. لكن انتصار تموز كان تأسيسيًّا في مدرسة تراكمية، تتأقلم مع كل ما يصادفها من جهة، وتضع كل ما يصادفها بتصرف المعركة الكبرى.
حرب تموز ليست مجرد حرب أخرى؛ حرب مفاجآت المقاومة مثلت مرحلة مفصلية في حياة الكثير من اللبنانيين، خصوصاً نحن، من اكتشفنا متأخرين جداً ماذا يعني العدو الاسرائيلي وماذا تعني المقاومة وماذا يعني الانتصار وماذا يعني الانحياز المطلق للحق بكل ما يترتب عليه من فواتير.