هدوء يسبق العاصفة أم توجه جدي للبحث عن تسويات متوازنة؟
موقع قناة الميادين-
حسن نافعة:
لا يتوقع حدوث تحوّل درامي في مسار الأوضاع العالمية والإقليمية قبل انتخابات التجديد النصفي الأميركية مطلع الخريف القادم، ويعتقد على نطاق واسع أن الأمور قد تبدأ في التغير بعد ذلك.
توحي التفاعلات الجارية حالياً على الساحتين العالمية والإقليمية بمشاعر متباينة. فبينما يشي بعض هذه التفاعلات باتجاه العالم نحو مزيد من التهدئة، والبحث عن سبل لاحتواء الأزمات المتفاقمة أو تسويتها، يشي بعضها الآخر باتجاه العالم نحو مزيد من التوتر، والعمل على تعقيد ما هو مشتعل منها.
ولأن أحداً لا يتوقع حدوث تحوّل درامي في مسار الأوضاع العالمية والإقليمية قبل انتخابات التجديد النصفي الأميركية مطلع الخريف القادم، يعتقد على نطاق واسع أن الأمور قد تبدأ في التغير بعد ذلك، وحينئذ سيتضح ما إذا كانت حالة الهدوء النسبي التي يشهدها العالم حالياً هي من نوع الهدوء الذي يسبق اندلاع العاصفة والانفجار الكبير، أم أنها حالة تمهد لدخول النظام الدولي مرحلة جديدة، يتم خلالها الاتفاق على قيم وقواعد تقوم على توازنات مختلفة عن تلك التي سادت في إبان مرحلة الهيمنة الأميركية المنفردة.
مظاهر التهدئة على مستوى النظام العالمي تبدو عديدة، ربما كان أهمها نجاح الجهود التركية، بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة وتحت مظلتها، في التوصل إلى اتفاق يسمح لكل من روسيا وأوكرانيا بتصدير منتجاتهما من الحبوب إلى أسواق عالمية بدت في أمسّ الحاجة إليها. ويعد هذا تطوراً بالغ الأهمية، بالنظر إلى مخاوف حقيقية من حدوث مجاعة كبرى، خاصة في العديد من دول العالم الثالث، بسبب تداعيات الحرب الدائرة حالياً على الساحة الأوكرانية.
صحيح أن اتفاق الحبوب لم يدخل حيز التنفيذ الفعلي إلا منذ أيام قليلة، وصحيح أيضاً أن روسيا تربط مصيره وقابليته للاستمرار بإزالة العقبات التي تحول دون تمكينها من تصدير منتجاتها من الحبوب بِحُرية إلى مختلف الأسواق العالمية، ما يعني في الواقع أنها تطالب برفع العقوبات الغربية كافة المفروضة على شركات التأمين والبنوك الممولة للأنشطة المتعلقة بتجارة الحبوب الروسية، غير أن مؤشرات عديدة تؤكد أن عجلة تنفيذ الاتفاق دارت بالفعل، ولم يعد بمقدور أحد المغامرة بتحمل مسؤولية إيقاف دورانها، والتسبب في مجاعة عالمية حقيقية.
ولا تقتصر أهمية هذا الاتفاق في الواقع على تأثيراته المحتملة في أسواق الحبوب العالمية، وإنما قد تتجاوز ذلك إلى ما هو أبعد بكثير، خاصة وأن تركيا ترى فيه مجرد بداية مشجعة تسمح لها بمواصلة جهودها الرامية للتوصل إلى وقف لإطلاق النار على الساحة الأوكرانية، والبحث عن تسوية متوازنة ومقبولة لهذه الأزمة العالمية الكبرى.
وسواء انطوت هذه الرؤية التركية على قدر من المبالغة في التفاؤل أم لا، إلا أن نجاح تركيا في التوصل إلى اتفاق الحبوب يوفر لا شك حافزاً إضافياً قد يشجع أطرافاً دولية أخرى على مواصلة الجهود الرامية للبحث عن تسوية للأزمة الأوكرانية نفسها، خاصة الأطراف التي بدأت تستشعر الخطر من العواقب المترتبة على استمرار هذه الأزمة.
فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن دولاً كثيرة، أوروبية وغير أوروبية، بدأت تعاني بشدة من الآثار السلبية المرتدة للعقوبات المفروضة من جانب طرفي الأزمة، يتوقع أن تشهد المرحلة القادمة تزايد الضغوط الدولية الرامية للتوصل إلى وقف لإطلاق النار، والبحث عن تسوية سياسية متوازنة للأزمة الأوكرانية، ما يعني أن جانباً مهماً من التفاعلات التي ستشهدها الساحة العالمية في المرحلة القادمة سيتجه نحو التهدئة بأكثر مما سيندفع في اتجاه التصعيد.
في المقابل، لا تخلو الساحة العالمية من مظاهر تصعيد تدعو إلى كثير من القلق. فمنذ أيام قليلة، قام الرئيس الروسي بوتين بالتوقيع على وثيقة “العقيدة البحرية الروسية الجديدة”. ووفقاً لهذه الوثيقة، والتي تقع في 55 صفحة، ترى روسيا أن إصرار الولايات المتحدة على الانفراد بالهيمنة على البحار والمحيطات العالمية يشكل تهديداً وجودياً لها.
ولأنها لا تستطيع الوقوف مكتوفة الأيدي حيال هذا التهديد، فليس أمام روسيا، هكذا تقول الوثيقة، سوى تطوير أسطولها ليكون قادراً في المستقبل القريب على “فتح ممر بحري آمن من أوروبا إلى آسيا عبر ساحل المنطقة القطبية الشمالية وضمان تشغيله طوال العام”.
ولا شك أن توقيع بوتين وثيقة كهذه، وفي هذا التوقيت بالذات، يعكس مدى إصراره ليس فقط على مواجهة تحديات الهيمنة الأميركية المنفردة بكل الوسائل المتاحة، بما في ذلك الوسائل العسكرية، وإنما إعادة التأكيد على تمسكه بتحقيق أهداف حملته العسكرية على أوكرانيا كاملة.
على صعيد آخر، يلاحظ أن العلاقات الأميركية-الصينية دخلت خلال الأيام القليلة الماضية منعطفاً جديداً يتسم بالتصعيد، بسبب الزيارة التي قامت بها نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأميركي، مؤخراً إلى تايوان. فالصين ترى في إصرار بيلوسي على هذه الزيارة، في هذا التوقيت بالذات، استفزازاً غير مقبول وتصعيداً غير مبرر.
ورغم تعبير البيت الأبيض علناً عن عدم ارتياحه لهذه الزيارة، وإعادة تأكيده على أنها لا تنطوي على تغيير في سياسة أميركا تجاه قضية تايوان، القائمة على صين واحدة، ترى الصين فيها دليلاً على وجود تيارات رسمية أميركية تسعى للتحرش بها وللتصعيد معها.
ربما يكون من السابق لأوانه معرفة الكيفية التي سترد بها الصين على ما تعدّه عملاً استفزازياً وتصعيدياً غير مشروع ضدها، إلا أنه ليس من المستبعد إطلاقاً أن تشكل زيارة بيلوسي لتايوان نقطة تحوّل في طريقة تفكير الصين حول ما يجب القيام به لضمان وحدة أراضيها، واستعادة السيطرة مستقبلاً على جزيرة تايوان التي تعدها جزءاً لا يتجزأ من ترابها الوطني.
وأياً كان الأمر، فلا شك أن إصرار نانسي بيلوسي على القيام بزيارتها لتايوان، من ناحية، ورد الفعل المحتمل للصين على هذه الزيارة، من ناحية أخرى، يعدان مؤشرين على مستوى التوتر الذي تشهده العلاقات الدولية عند قمة هرم النظام العالمي.
إذا نحينا هذا المستوى جانباً، وحاولنا إلقاء نظرة على ما يجري في منطقة الشرق الأوسط، فسوف نجد أن المؤشرات الدالة على اتجاه التفاعلات الدولية فيها نحو التهدئة، تسير جنباً إلى جنب مع المؤشرات الدالة على التصعيد، وهو ما يتضح بجلاء من مجمل النتائج التي أسفرت عنها زيارة بايدن الأخيرة للمنطقة.
ومن المعروف أن زيارة بايدن استهدفت في الأساس إعادة التأكيد على أن منطقة الشرق الأوسط هي منطقة نفوذ أميركي، وأن الولايات المتحدة قررت العودة إليها والبقاء فيها، وأنها لن تنسحب منها أو تتخلى عن حلفائها فيها.
وبناءً عليه، اعتقد بايدن أنه سيتمكن في نهاية هذه الزيارة من تحقيق أمرين؛ الأول: إقناع السعودية بضخ المزيد من النفط، لإحكام الحصار على روسيا، من ناحية، والتخفيف من الآثار السلبية الناجمة عن ارتفاع أسعار الطاقة، من ناحية أخرى. والثاني: إقناع دول المنطقة بتشكيل “ناتو” شرق أوسطي، يساعد على عزل إيران وإحكام الحصار المضروب حولها، من ناحية، كما يساعد على دمج “إسرائيل” أكثر في المنطقة، من ناحية أخرى.
غير أن الزيارة لم تنجح في تحقيق أي من هذين الهدفين، بل وأثبتت أن معظم الدول الحليفة للولايات المتحدة في هذه المنطقة من العالم تريد أن تنأى بنفسها بعيداً عن سياسة المحاور، وترفض أن تستخدم كأدوات في الصراع المحتدم بين روسيا والولايات المتحدة، على الساحة الدولية، أو في الصراع المحتدم بين الولايات المتحدة وإيران، على الساحة الإقليمية.
وكان من الطبيعي أن ينعكس هذا الفشل على أوضاع المنطقة، وأن يؤدي إلى تسريع حركة التفاعلات التعاونية فيها، خاصة بين إيران ودول الجوار العربي.
هذا التحرك الملموس في اتجاه التهدئة يجب ألا يطمس معالم التوتر الكامن في منطقة الشرق الأوسط، والذي قد يتصاعد في مراحل لاحقة. فهذه المنطقة من العالم تعج بأزمات كثيرة قابلة للانفجار في أي لحظة، في مقدمتها أزمتان تتسمان بحساسية شديدة وتلعب فيهما “إسرائيل” دوراً محورياً. الأولى: تتعلق باحتمالات العودة الأميركية إلى الاتفاق النووي المبرم مع إيران عام 2015. ومن المعروف أن “إسرائيل” تبذل كل ما في وسعها للحيلولة دون هذه العودة، وتأمل أن تنجح في إقناع الولايات المتحدة بأن استخدام القوة العسكرية هو السبيل الوحيد لمنع إيران من الحصول على السلاح النووي.
ولأنها تدرك أن فسحة الوقت المتاحة ليست كبيرة، خاصة وأن إيران تواصل عمليات تخصيب اليورانيوم بنسب ومعدلات تقربها بسرعة من القدرة على تصنيع السلاح النووي إن هي اتخذت قراراً بذلك، فلا شك أن “إسرائيل” تتعجل الإعلان الرسمي عن فشل المفاوضات الأميركية -الإيرانية.
الثانية: تتعلق بتهديد حزب الله بضرب منصات استخراج الغاز الإسرائيلي من شرق المتوسط إن أصرت “إسرائيل” على البدء في استخراج الغاز من حقل “كاريش” قبل التوصل إلى اتفاقية لترسيخ الحدود البحرية مع لبنان، تسمح للأخير ببدء العمل على استخراج ثرواته النفطية.
ورغم وجود شواهد على احتمال اعتماد “إسرائيل” خيار التهدئة، يبقى خيار التصعيد قائماً، وهو ما سيتضح بجلاء قبل نهاية أيلول/سبتمبر القادم.
أخلص من هذا التحليل الموجز إلى أن الصلة بين الأزمات الشرق أوسطية والأزمات العالمية تزداد وثوقاً ووضوحاً بمرور الأيام، وأن حالة الهدوء الراهنة التي تشهدها المنطقة والعالم قد تكون حالة مؤقتة تسبق اندلاع العاصفة، وأن الخريف القادم قد يكون هو الخط الذي يتبين عنده الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر!