هدم منازل المقاومين الفلسطينيين في العقل اليهودي.. ردع أم شهوة انتقام؟
موقع قناة الميادين-
محمد هلسة:
تدّعي “إسرائيل” أن الهدم يعتبر شكلاً من أشكال الردع، لأن الفدائي الفلسطيني يضطر في النهاية إلى النظر في أثر أفعاله في أسرته، وهو إحدى العقوبات الأكثر إثارة للجدل التي تستخدمها “إسرائيل” في حربها ضد الفلسطينيين.
يعود موضوع هدم منازل الفلسطينيين، وخصوصاً منازل ذوي منفذي العمليات الفدائية، إلى العناوين الرئيسية مرة أخرى، ويشغل أجهزة الأمن والقضاء والتشريع الإسرائيلية مع تزايد أعمال المقاومة في عموم الأراضي الفلسطينية المحتلة.
هدم منازل الفلسطينيين هو إجراء تستخدمه سلطات الاحتلال في الأراضي الفلسطينية كافة ضد الفلسطينيين بذريعة الردع؛ فمنذ احتلال باقي الأراضي الفلسطينية في أعقاب نكسة حزيران/يونيو 1967 وحتى عام 2015، قدّرت اللجنة الإسرائيلية لمناهضة هدم المنازل أن “إسرائيل” دمرت 48488 مبنى فلسطينياً.
لسنا هنا بصدد دراسة الذرائع التي تتخذها سلطات الاحتلال لتنفيذ علميات الهدم، فهي متعددة وكثيرة، وخصوصاً في مدينة القدس التي يكثر فيها الهدم على خلفية “البناء من دون ترخيص”، إنما نبحث في الزعم بأنها تشكل رادعاً قوياً ضد ما تسميه “إسرائيل” “الإرهاب”، بما “يؤدي إلى خفض الهجمات الفلسطينية ويدفع أسر فدائيين محتملين إلى ثني أبنائهم عن تنفيذ هجمات مستقبلاً، كما نبحث في استنكاف “دولة إسرائيل” عن تطبيق هذا الإجراء لردع الإرهاب اليهودي ضد الفلسطينيين الذي يتزايد عاماً بعد عام.
تدّعي “إسرائيل” أن الهدم يعتبر شكلاً من أشكال ردع ما تصفه بـ”الإرهاب”، لأن الفدائي الفلسطيني يضطر في النهاية إلى النظر في أثر أفعاله في أسرته، وهو إحدى العقوبات الأكثر إثارة للجدل التي تستخدمها “إسرائيل” في حربها ضد الفلسطينيين.
ولا يهدف هدم المنزل إلى معاقبة الفدائي الفلسطيني نفسه، الذي غالباً ما يرتقي شهيداً بعد تنفيذ الفعل المقاوم أو يسجن مدى الحياة في أحسن الأحوال، إنما لمعاقبة أسرته رغم عدم وجود دليل على أنها علمت بنياته أو شاركته الفعل المقاوم بأي صورة من الصور.
ومن هنا، فإن عقوبة “الهدم” هي شكلٌ من أشكال العقاب الجماعي، أي إضرار متعمّد بالمجموعة (الأسرة) بسبب فعلٍ ارتكبه أحد أفرادها.
يدور الجدل الرئيسي حول فعالية هذا الإجراء في مقابل الضرر الذي قد يسببه. ووفقاً لدراسة أجراها “المعهد الإسرائيلي للديمقراطية” عام 2015، لم يتبين أن سياسة هدم منازل المقاومين تخلق ردعاً، بل إنها في بعض الحالات شجّعت على تنفيذ أعمال مقاومة إضافية.
وبحسب الدراسة، فإن الباحثين لم يتمكنوا من العثور على بيانات تدعم الموقف القائل إن هدم المنازل يعزز الردع، لكنهم وجدوا بيانات تشير إلى وجود نتائج معاكسة للادعاء الإسرائيلي، وهي النتيجة ذاتها التي دعمها تقريرٌ داخليٌ “للجيش” الإسرائيلي نشر عام 2005، وبحث في فعالية إجراء الهدم خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي هدم الاحتلال فيها 3000 منزلٍ مدني فلسطيني.
لقد وجد أن “الهجمات الفلسطينية زادت بعد هدم المنازل، وحفزت فقط على كراهية إسرائيل”، وأن “الأضرار الناجمة عنه تفوق منافعه”، وأوصى بإسقاط هذه الممارسة، بعدما ثبت أن الهوية الفلسطينية تتشبع بعمق مع الشعور بالخسارة الوطنية للمكان الذي ولد فيه أفراد الأسرة.
مثل هذه الأحداث يسبب صدمة أو “نكبة” جديدة للأسر المتضررة، ويعزّز لديها الهوية الوطنية الجمعية، فتميل إلى تشجيع العمل المقاوم رغم خسارتها مسكنها. يحمل المنزل بالنسبة إلى أي أسرة فلسطينية معنى رمزياً كبيراً، فهو صلة الفرد العميقة بأرضه، وتدميره يعني نزع الفلسطيني عن أرضه وقطع الصلة بينهما، وهو عقوبة يراها الفلسطينيون امتداداً لأعمال التهجير التي تمت خلال النكبة والنكسة، وبالتالي فإن الإضرار بالمنزل ليس مجرد انتهاك لحق الملكية والمأوى، بل هو انتهاك للكرامة الإنسانية الوطنية.
وثمة عنصر آخر يؤخذ بعين الاعتبار في ادعاء “الردع بالهدم”، وهو أن الفلسطينيين وجدوا طريقةً للتعامل مع هدم المنازل وتعويض العائلات المتضررة من خلال إعادة بناء منازل لها أو ترميم ما تضرّر منها عبر جمع الأموال من متبرعين من المجتمع الفلسطيني.
ولم تنأ “محكمة العدل العليا” الإسرائيلية بنفسها عن الشراكة في هذا الإجراء العنصري حين رفضت الكثير من الالتماسات التي قدّمت ضد الهدم مراراً وتكراراً، والتي استندت إلى “مبدأ المسؤولية الشخصية”، وأنه “ليس من المناسب وليس من الأخلاق أن يتحمّل أفراد عائلة المقاوم، الذين لم يساعدوه ولم يعلموا بخططه، “ذنبه”، إذ ردّت المحكمة هذه الدعوى بزعم أنها “غير قادرة على التدخل في مسألة مدى فعالية استخدام هذا الإجراء الذي يهدف إلى ردع أولئك الذين يفكرون في المشاركة في أعمال المقاومة”.
وجاء في قرار المحكمة: “احتمال أن يؤدي هدم المنزل أو إغلاقه إلى منع إراقة الدماء في المستقبل يقتضي منا أن نحرص على أن ننقذ الأرواح التي قد تفقد مستقبلاً أكثر من حرصنا على المحافظة على حق ملكية المنزل”، وهو اقتباسٌ تفوح منه رائحة العنصرية المقيتة التي تقدّم حق “ضحايا يهود محتملين” نتيجة أعمال المقاومة في الحياة على حق أصحاب المنزل الفلسطيني في حيازته، حتى لو لم يكونوا شركاء في العمل المقاوم.
وبما أنه لم يكن من الممكن إثبات فعالية سياسة هدم المنازل كأداة للردع، فإن الأساس الأخلاقي والقانوني لموقف “دولة إسرائيل” ومحاكمها يفقد شرعيّته، والفكرة التي تنطلق منها “إسرائيل” هي أن التهديد الوطني يستدعي استجابة وطنية، وطبعاً عدوانية دائماً، لكن المفارقة أن المنزل اليهودي الذي يُبنى من دون ترخيص يعتبر مشكلة “حضرية”، فيما المنزل الفلسطيني “من دون ترخيص” يشكل “تهديداً استراتيجياً”!
واستناداً إلى المنطق الأعوج نفسه، فإن أي مبنى يهودي من دون ترخيص هو “تجاوز للقانون”، فيما هو تحدٍّ “للسيادة اليهودية” على القدس في حال كان فلسطينياً، وهو أيضاً الفلسفة العنصرية العرجاء نفسها التي تحكم سلوك “دولة” الاحتلال وقضاءها في ازدواجية التعامل مع هدم المنازل على خلفية تنفيذ عملياتٍ في إطار الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني.
إن استخدام “دولة” الاحتلال إجراء هدم المنازل فقط عندما يكون “المخالف” فلسطينياً و”الضحية” يهودياً هو قمة العنصرية البغيضة، إذ لم يطبق إجراء هدم المنازل على اليهود كما يطبّق على العرب حتى الآن، ولم يتم تدمير منزل أي يهوديٍ شارك في الإرهاب ضد الفلسطينيين.
وحين طلب من ممثل “دولة” الاحتلال في “جلسة المحكمة العليا” الإسرائيلية بشأن هدم منزل قتلة الطفل الشهيد محمد أبو خضر الإشارة إلى الفرق بين الإرهابيين اليهود والعرب، أجاب بأن “الدولة تهدم من أجل الردع”، وأن “الجمهور اليهودي مرتدعٌ بالفعل”، وأضاف “أن نطاق الإرهاب يختلف بين العرب واليهود”، وكأن الإرهاب اليهودي محمود، فيما المقاومة الفلسطينية مذمومة.
والنتيجة المثيرة للسخرية أنه لا داعي لهدم منازل الإرهابيين اليهود، لأنه في الوسط اليهودي “ليست هناك حاجة للردع نفسه في البيئة الاجتماعية بما يستدعي هدم المنازل”، ولأن هناك في الوسط اليهودي “إدانة صارمة وحاسمة للإرهاب اليهودي”، وتشعر العائلات اليهودية “بالاشمئزاز من تصرفات أفرادها” الإرهابيين! بحسب زعمهم، حتى إن إلياكيم روبنشتاين، أحد قضاة المحكمة العليا الإسرائيلية، قال: “يوجد لدى المجتمع العربي مؤيدون كثر للإرهاب، لذا يكون الردع بالهدم أقوى أثراً”.
وفق هذا التفسير، فإن أجهزة أمن الاحتلال ببساطة لم تجد حتى الآن أن من الضروري اتخاذ إجراءات صارمة ضد أي إرهابي يهودي، مما يفهم منه أنه لا يوجد مكان لممارسة عقوبة الهدم ضد الجمهور اليهودي، “لأن الأعمال الإرهابية التي ارتكبها عدد صغير من اليهود لا تستدعي استخدام العقوبة ذاتها، ولا حاجة لـلردع”، وهو بالتأكيد خطاب مليء بالعنصرية والاستعلاء والرغبة في الانتقام، ويتبين منه دون أدنى شك أن الهدم لا يهدف إلى ردع العرب، بل إسعاد اليهود وإشباع شهوة الانتقام لديهم.
ولا شك في أن الجمهور الإسرائيلي، وخصوصاً عصابات اليمين القومي الإرهابية المعروفة بـ”فتية التلال”، سعيدة جداً بهذا المنطق الذي يعفيها من تحمّل أي تبعاتٍ نتيجة إرهابها ضد الفلسطينيين، بل يمنحها الضوء الأخضر للمضي فيه ما دام لا يوجد حسيب ولا رقيب.