نهاية «أسطورة رومية»
صحيفة الأخبار اللبنانية ـ
رضوان مرتضى:
انتهت أسطورة «سجن رومية المركزي». خلال بضع ساعات أجهزت القوى الأمنية على ما بُني طوال سنوات. والحظوة التي اكتسبها السجناء الإسلاميون بقرارٍ سياسي ذهبت أدراج الريح بقرار مماثل. فهل حُلّت مشكلة «رومية» أم رُحّلت إلى حين؟
صنعت الدولة اللبنانية أسطورة «مبنى الإرهاب» في سجن رومية. منح سياسيوها وأمنيوها الحظوة لنزلائه. ومن هذا «الغطاء»، حصّلوا سطوتهم على باقي السجناء. هكذا بات «أمير» الطبقة الثالثة في مبنى الموقوفين (ب) حاكماً بأمره، فحرّم على حرّاس السجن وطء حدود إمارته، وأعطى الأمر لمريديه بكسر الحدود بين الغُرف، مُمهِّداً لإقامة حدود الله، كما يراها وأتباعه.
في هذه الطبقة، جُلِد سجناء لأنهم خالفوا تعاليم الأمير، وفُرِضت الجزية على آخرين. داخل أسوار هذا السجن، الذي تسيطر عليه القوى الأمنية شكلاً، أُقيم «حد القتل» على السجينين غسان القندقلي ونور العرب. قُتِل الرجلان شنقاً، على أيدي سجناء، إنفاذاً لحكم شرعي مزعوم. ومن هذا السجن نفسه، صدرت فتاوى القتل وإهدار الدم، من بينها فتوى أصدرها شيخ مجهول بناءً على طلب مسلّحين سوريين معارضين قضت بإعدام وليد البستاني (سجين لبناني فار ترأس تنظيماً متشدداً في ريف حمص) بطلقتين في الرأس. هكذا صار السجناء الإسلاميون (وصل عددهم إلى 360 سجيناً) أسياد المبنى «ب»، متحكمين بـ1200 سجين من الموقوفين الجنائيين بعدما خلّعوا أبواب كل الزنازين، وباتت طبقات المبنى الثلاث تحت سيطرتهم. تلك كانت الصورة الإعلامية، فيما كانت التقارير الأمنية تجزم بأنّ السجن تحوّل إلى «غرفة عمليات» تشغّل خلايا أمنية في الخارج عبر أحدث وسائل الاتصال، وقد أجمعت التقارير المستقاة من اعتراض مكالمات السجناء ومراقبتها على هذه النتيجة. لكن لم يُتّفق على تركيب أجهزة لقطع إرسال شبكة الهاتف وعزل السجناء عن محيطهم الخارجي، بذريعة «ترك الاتصالات للتنصّت عليها»، وعدم القدرة على ضبط السجن في حال تمرّد جميع سجنائه. لم يُتّخذ قرار إنهاء هذه الحالة الشاذة، إلا بعد الانتهاء من بناء قاعة محاكمات في آب الماضي. لكن القرار لم يُنفّذ، إذ تزامن مع اختطاف العسكريين في عرسال. وبحسب مصادر وزارة الداخلية، أراد الوزير نهاد المشنوق اقتحام المبنى ليلة إعدام العسكري المخطوف علي البزال، لكنّه تراجع يومها، بسبب عدم وجود فارق زمني كبير بينها وبين العملية العسكرية في طرابلس. ومع تفجيري جبل محسن الانتحاريين، طفح كيل المشنوق بعد كشفه رصد الأجهزة الأمنية وجود ارتباط وتنسيق بين أحد الانتحاريين ومجموعة في السجن المركزي. كان فرع المعلومات قد وضع خطة لاقتحام السجن، بهدف إنهاء «إمارة المبنى ب»، ولسوق عدد من المشتبه فيهم إلى التحقيق، وهم الذين يتمنعون عن حضور جلسات التحقيق والمحاكمة أمام القضاء. عقد المشنوق أكثر من اجتماع ليل أول من أمس، وأُجريت سلسلة اتصالات أمنية. لكن حلقة القرار بقيت ضيقة: المشنوق والرئيس سعد الحريري وقائد الجيش العماد جان قهوجي ورئيس فرع المعلومات العميد عماد عثمان ورئيس غرفة عمليات الأمن الداخلي العميد حسام التنوخي ورئيس مكتب الأمن العسكري في «المعلومات» العميد سعيد فواز ورئيس وحدة القوى السيارة العميد عبده نجيم، وعدد ضئيل من ضباط فرع المعلومات الذين خططوا لعملية الاقتحام. تقرر أن تنفّذ القوة الضاربة في فرع المعلومات العملية، على أن تقدّم لها المساعدة قوة «الفهود»، مع رفع جاهزية فوج المغاوير في الجيش، تحسباً لأي طارئ. حُدّدت الساعة الصفر للعملية: السادسة والنصف من صباح أمس. كان متوقعاً أن يكون في حوزة السجناء أسلحة وربما متفجرات. اقتُحمت الطبقتان الأولى والثانية من المبنى «ب»، بهدوء نسبة إلى ما كان متوقعاً. تحصّن السجناء الإسلاميون في الطبقة الثالثة. وبعد إنجاز العمل في الطبقتين الأولى والثانية، حاول «سجناء الإرهاب» التفاوض مع القوة الداهمة.
لم يكن «أسياد السجن» متيقنين بعد من أن هذه المرة ستكون مختلفة عن العمليات الأمنية السابقة التي كانت تتراجع بقرار سياسي، وبسبب غطاء من تيار المستقبل لمن يحرّكون الشارع تضامناً مع «أسرى رومية». خرج ناطقاً باسم الموقوفين السجين اليمني سليم صالح الملقب بـ«أبو تراب» (وهو الأمير الفعلي للمسجونين في مقابل أمير صوري هو خالد ملكة المعروف بـ«أبو الوليد») طالباً وساطة سياسية. رفض رجال الأمن ذلك، مهددين باقتحام الزنازين خلال 10 دقائق إن لم يستسلم الموقوفون. ردّ السجناء برمي الحجارة والأدوات الحادة ثم فرّوا إلى غرفهم. بعد دقائق، وفي ظل غزارة نيران كبيرة من قبل القوة الداهمة، طرح أحد السجناء نفسه وسيطاً، عارضاً إخراج السجناء. رفض الضابط الذي يقود العملية العرض قبل أن يشترط أن يقف السجين المتطوع على باب السجن ليُخرجهم واحداً تلو الآخر، بشرط أن يكونوا عراة من الأعلى، مخافة أن يكون أحدٌ منهم يحمل سلاحاً أو مرتدياً حزاماً ناسفاً. انتهت العملية بسلام. 3 رجال أمن جُرحوا نتيجة ضربهم بالحجارة والعصي، وأصيب عدد من السجناء بالرصاص المطاطي. أنجزت المهمة بتكبيل جميع السجناء عراة إلا من لباسهم الداخلي، ثم نُقلوا إلى المبنى «د»، ليجري توزيعم على 180 غرفة مجهزة بأبواب، بين سجناء جنائيين، وهو ما لم يعتادوه خلال السنوات الماضية. للمرة الأولى منذ 3 أعوام، تتمكن القوى الأمنية من إجراء تعداد للموقوفين، بعدما منع «السجناء الإسلاميون» حراس السجن من دخوله. النتيجة الأولية للتفتيش لم تُظهر وجود أسلحة ومتفجرات داخل السجن، بخلاف ما كان يُسوّق سابقاً. واليوم، ستبدأ عملية التفتيش الدقيقة.
لم ينزل «طابق الإسلاميين» على «سجن رومية» من الفضاء. هناك من صنع هذه الأسطورة، وموّلها وغذّاها، من داخل الحكومات اللبنانية المتعاقبة ومن خارجها. كثيرون استثمروا قضيتهم، لناحية المطالبة اللفظية بتسريع المحاكمات. وكثر رعوا إقامتهم. منذ حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، كانت وجبات ساخنة تصل إلى بعض هؤلاء السجناء، تحت أعين إدارة السجن التابعة للمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، التي نمت إمارة «المبنى ب» في عهد مديرها العام السابق اللواء أشرف ريفي، الذي هنّأ أمس زميله المشنوق على «الإنجاز»!
بعد وضع حدّ للحالة الشاذة الأكبر في سجن رومية المركزي، التي تضرّر منها ــ قبل صورة الدولة المهترئة أصلاً ــ سجناء إسلاميون بالدرجة الاولى، ثمة أسئلة لن يجيب عنها سوى تطورات الأيام المقبلة، أبرزها: هل ثمة ضمانة لئلا يتكرر المشهد نفسه في أحد المباني الأخرى؟ وزير الداخلية والضباط الذين شاركوه أمس الإشراف على تنفيذ عملية الدهم يعدون بمنع استنساخ التجربة. الأيام المقبلة كفيلة بتقديم الخبر اليقين.