نمو العلاقات الروسية ـ الصينية خبر غير سار للغرب
شهدت العلاقات بين موسكو وبكين تقلبات دورية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، فما إن بدا الأمر وكأنه فترة تقارب بين الطرفين، حتى طرأ تغيير مفاجئ أدى الى تدهور ما تمّ بناؤه لأسباب كثيرة، أحدها عدم توازي التعاون على الصعيد الاقتصادي مع المجالات السياسية والعسكرية. فعلى سبيل المثال، استندت العلاقات بين روسيا والصين إلى تعزيز التعاون في مجالات الصناعة والاستثمار تحت مظلة «منظمة شانغهاي للتعاون»، إلا أن علاقتهما السياسية لم ترتقِ الى المستوى المطلوب، خصوصاً مع توجه دول الاتحاد الأوروبي نحو مزيد من التكامل السياسي والأمني، وتشجيع الولايات المتحدة على تحميل الدول الأوروبية أعباء بعض «المسؤوليات الدولية».
حصلت نقطة التحول في العلاقات بين موسكو وبكين بحسب الكثير من المحللين في روسيا والصين عندما تدخلت دول «حلف شمال الأطلسي» عسكرياً في يوغوسلافيا (1999) والعراق (2003) من دون موافقة مجلس الأمن وخالفت القرار 1973 في ليبيا (2011)، وعندما تمت زعزعة الاستقرار في سوريا وأوكرانيا عبر محاولات تغيير الأنظمة السياسية الحاكمة. وشهدت هذه العلاقات دفعة قوية مع مجيء فلاديمير بوتين الى الحكم والذي اتبع بدوره سياسة خارجية أكثر واقعية مع الصين، خصوصاً مع انتشار الدرع الصاروخية «لحلف شمال الأطلسي» في حدود أوروبا الشرقية، وبدأ الكرملين من هذا المنطلق يبدي مزيداً من الاهتمام بتحسين العلاقات مع الصين، الأمر الذي فُسّر على أنه استراتيجية جديدة لإعادة بناء مكانة السياسة الخارجية الروسية في النظام الدولي التي تم تقويضها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وبالمثل رأت بكين في هذا التطور فرصة لعلاقات أوثق مع موسكو ولتعزيز موقفها الاقليمي والدولي.
اعتقد الكثير من مسؤولي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أن الغضب الروسي بعد أحداث اوكرانيا وسوريا لن يكون له أثر مباشر على توازن القوى في شرق أوروبا والعالم. لكن تبيّن أن الرهان هذا لم يكن دقيقاً بعد انفصال شبه جزيرة القرم عن أوكرانيا، وإجراء انفصاليي الأقاليم الشرقية استفتاءً للحكم الذاتي في دونيتسك ولوهانتسك تحت تهديدات المجتمع الغربي بفرض عقوبات اقتصادية على موسكو التي لم تبدِ اهتماماً كبيراً بهذا الخطاب التهديدي. وقد أدى اعتماد صناع القرار في عواصم الغرب على أبحاث مراكز الدراسات – الممولة أصلاً من قبل الحكومات الغربية – لقراءة التغيرات الحاصلة في العالم، الى خطأ في تقدير طموح بوتين وقدرات دولته الصاعدة على كل الأصعدة. لقد راهنت الولايات المتحدة والدول الأوروبية على أن عافية الموارد المالية الروسية تعتمد أساساً على بيع موسكو نفطها وغازها اليها. وظنت أنه لا يمكنها أن تتخذ خطوات تصعيدية، لأن الضرر سيكون متبادلاً. إلا أن بوتين اعتمد استراتيجية تنويع مصادر الدخل القومي وعدم حصر مبيعات الغاز بأوروبا على المديين المتوسط والبعيد، الأمر الذي سيمكنه من المناورة والتصرف بحرية أكبر، والذي يمكننا من خلاله تفسير الاتفاق الثنائي الذي ستزوّد روسيا بموجبه ما تبلغ قيمته 400 مليار دولار من الغاز الطبيعي الى الصين عبر خط أنابيب من سيبيريا والذي سيباشر ضخه خلال أربع سنوات. كما ورد في تقرير مفصل لمراسل NPR في شانغهاي أن روسيا ستبدأ في العام 2018 بإرسال 38 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً إلى الصين، أي ما يعادل تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي خلال 30 سنة، أي ربع صادرات الغاز الروسية إلى كل أوروبا. وقد وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال زيارته الى الصين هذا الحدث بـ«التاريخي» لقطاع الغاز في روسيا، قائلاً إن العقد هو الأكبر في تاريخ قطاع الغاز في الاتحاد السوفياتي السابق.
بالإضافة الى صفقة الغاز، اتخذ كل من موسكو وبكين خطوة نحو تقويض هيمنة الدولار الأميركي كعملة احتياط دولية عندما وقعت (VTB) – ثاني أكبر مؤسسة في روسيا المالية – اتفاقاً مع بنك الصين لتجاوز الدولار ولتدفع الدولتان لبعضهما البعض بالعملات المحلية، وحول هذا يقول مايكل كلير، أستاذ دراسات الأمن والسلام العالمي في كلية هامبشاير إن «الصين ترى في هيمنة الدولار على المعاملات التجارية الدولية استمراراً للهيمنة الأميركية على العالم، والتي تأمل إطاحتها في السنوات المقبلة»، ويضيف أن ما قامت به الصين «خطوة صغيرة في هذا الاتجاه، للحد من سيادة الدولار في التجارة الدولية».
ويرى متابعو الشأن الروسي أن تطور العلاقات لن يتوقف عند هذا الحد، بل سيصل الى «مرحلة جديدة من شراكة واسعة النطاق في العلاقات الاستراتيجية»، حيث سيتخلل هذه «المرحلة الجديدة» تعاون أوثق بين البلدين في السياسات الدولية.
ويرى ليونيد سافين، رئيس تحرير مجلة Eurasian Affairs أنه لم يعد من الممكن للأوروبيين أن يقدّموا خطاباً عدائياً، لأن تنويع أسواق الغاز أصبح قيد الإنجاز، مضيفاً أن الغاز الروسي أقل كلفة من الغاز الأميركي المنقول بحراً إلى جنوب شرق آسيا. كما يعتبر أن الصين تمثل شريكاً أكثر أهمية بالنسبة لروسيا، نظراً لكونها عضواً في تجمّع «البريكس» و«منظمة شانغهاي للتعاون»، إضافة الى تطابق وجهتي النظر الروسية والصينية في مقاومة توسع «حلف شمال الأطلسي» نحو الشرق ومحاولات زعزعة الأنظمة السياسية التي لا تدور في فلك الولايات المتحدة.
استناداً الى ما سبق، سيكون لصفقة الشركة الروسية العملاقة «غازبروم» مع الصين تبعات جيوسياسية مهمة على السياسة الدولية، أولاها ردع محاولات توسع «حلف شمال الأطلسي» نحو المجالات الحيوية لموسكو ومنع تطويقها من قبل الغرب، بالإضافة الى ضمان مصدر ثابت وموثوق من النمو الاقتصادي لعقود مقبلة من خلال مرور خطوط أنابيب روسيا الى الشرق عبر أراض مستقرة نسبياً وصولاً الى الصين. أما بالنسبة لبكين، فإن هذه الصفقة سوف تُربك استراتيجية الولايات المتحدة المسمّاة بـ«محور آسيا» لتطويقها واحتوائها، عبر فتح ممرات للطاقة بعيداً عن تدخلات واشنطن.
نهايةً، ستضفي الشراكة الروسية الصينية في مجال الطاقة مزيداً من المصداقية على الدعوات والتنبؤات المبشرة بنظام عالمي متعدد الأقطاب في المستقبل، كاشفة في الوقت ذاته أوجه الخلل والقصور في نظام القطب الواحد المقاد من قبل الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة، والذي سعى للهيمنة عبر سيطرته على قرارات المنظمات والمحاكم الدولية وشرّع الحروب ومارس الإقصاء والتعاون الاقتصادي المكلف وغير المتكافئ، وتسبب بالمجاعات وارتفاع نسب الفقر وعرقلة نمو دول العالم الثالث منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.
صحيفة السفير اللبنانية – كيفورك ألماسيان