نعم..عرفات مات مسموما واسرائيل هي القاتل فماذا نحن فاعلون؟
ثلاث دول في العالم تملك مادة البولونيوم النووية التي استخدمت في اغتيال الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات هي الولايات المتحدة الامريكية وروسيا واسرائيل، وليس هناك مصلحة مباشرة للدولتين العظميين في الاقدام على جريمة الحرب هذه، ولذلك فان اصابع الاتهام تشير الى اسرائيل التي تخصصت في اعمال الاغتيال هذه ضد العرب والفلسطينيين والمبعوثين الدوليين على مدى ستين عاما من احتلالها لارض فلسطين.
ارييل شارون رئيس الوزراء الاسرائيلي الاسبق الذي يقبع حاليا في احد المستشفيات في حالة غيبوبة هدد اكثر من مرة باغتيال عرفات علانية، لانه رفض الاستسلام في منتجع كامب ديفيد عام 2000 والتخلي عن القدس المحتلة والسيادة الكاملة والمطلقة عليها، وقرر اشعال فتيل الانتفاضة المسلحة ضد الاحتلال متنبئا بالشهادة، ومنتظرا لها في اي لحظة.
الرئيس عرفات اتخذ جميع الاحتياطات اللازمة في حدود امكانياته البسيطة لافشال محاولات اغتياله في مقره المحاصر فيه، حيث لا ماء ولا كهرباء، ولا زوار عربا رسميين غير من يتوسطون من اجل رحيله الى المنفى (عمر سليمان)، فقط بعض وفود التضامن الشعبية العربية والاجنبية.
عرفات وضع قضبان حديد فوق سطح مقره لمنع هبوط طائرات عمودية للقيام باختطافه، واغلق ثلاجته التي تتغذى على تيار كهربائي من محرك صغير بقفل على طريقة العجائز لا يحمل مفتاحه غيره، وكانت هذه الثلاجة مليئة بالمعلبات التي لم يأكل غيرها خوفا من دس السم في الطعام، واحتفظ بقناع مضاد للغاز، وبندقيته الآلية الصغيرة بجانب سريره في غرفة نومه خوفا من القاء قنابل لخنقه، وللدفاع عن نفسه حتى الشهادة واقفا.
الشيء الوحيد الذي لم يحسب حسابه الرجل هو ان يستشهد مسموما بالبولونيوم النووي واشعاعاته القاتلة، وهو نوع من السموم لم يكتشف الامر الا في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2006 عندما استخدم ضد العميل الروسي المنشق اليكسندر ليفننكو في فندق في قلب العاصمة البريطانية ويصعب اكتشافه ويؤدي الى وفاة من يصاب به بعد ايام معدودة دون ان يترك اي آثار.
لم نكن بحاجة الى معمل سويسري لكي يؤكد لنا ان عرفات مات مسموما، فالتقرير الذي اعده مستشفى بيرسي دو كلامار العسكري قرب باريس الذي كان محطته الاخيرة في الحياة اكد ان الرجل مات بالسم ولكن لم يتم تحديد نوعيته.
الرئيس عرفات نفسه ادرك في ايامه الاخيرة في رام الله ان الاسرائيليين وصلوا اليه وسمموه، وكان وداعه لمحبيه بعد وصوله على ظهر طائرة عمودية الى مطار عمان الدولي، حيث لم يكن في استقباله اي مسؤول اردني كبير للأسف، كان وداعه وداع الرجل الذي يعرف جيدا انه لن يعود حيا.
آخر مرة اتصلت به هاتفيا كانت قبل استشهاده بأسابيع معدودة، وكان جبلا راسخا في الصمود، لا يهاب الموت، مؤكدا فخره واعتزازه بالانتماء الى شعب الجبارين.. كنا نلجأ اليه، وهو المحاصر عربيا واسرائيليا، لنستمد منه الطاقة والقوة ورفع المعنويات، قال لي بحسرة والم انه يتصل بالزعماء العرب ولا احد يكلف نفسه رفع سماعة الهاتف والرد على مكالمته.
السؤال الآن هو اين دور السلطة الفلسطينية وما هي خطواتها المقبلة، ولماذا صمتت كل هذه الاعوام ولم تتحرك مطلقا لفتح التحقيق في كيفية اغتياله؟
يقولون ان هذه السلطة التي يتزعمها احد رفقاء سلاح عرفات لا تملك المال لتمويل عملية التحقيقات الجنائية والمخبرية، وهذا قول مضلل، فكل هذه التحليلات التي اجراها المعهد السويسري لم تكلف اكثر من مليون دولار فقط، فهل هذه السلطة التي حمّلت الشعب الفلسطيني ديونا تزيد عن اربعة مليارات دولار، لا تستطيع ان ترصد مليونا لكشف كيفية استشهاد القائد التاريخي للجهاد الفلسطيني!
نستغرب صمت السلطة، مثلما نستغرب استمراها في المفاوضات ليس بعد الكشف عن هذه الجريمة ودور “اسرائيل” فيها فقط، وانما للاستمرار الاستيطاني بكثافة غير معهودة، واصرار نتنياهو على الاحتفاظ بغور الاردن، واسقاط حق العودة، والاعتراف باسرائيل دولة يهودية.
المطالبة بتحقيق دولي من قبل السلطة لا يكفي، ومجرد ذر الرماد في العيون، المطلوب الانسحاب من المفاوضات والانضمام الى عضوية محكمة جرائم الحرب الدولية ومطاردة الاسرائيليين قضائيا، والحفاظ على ارث الرئيس الراحل في مقاومة الاحتلال باشكالها كافة.
والتحقيق الاهم هو التحقيق الداخلي لفضح الادوات “السياسية” التي استخدمتها “اسرائيل” للتمهيد لعملية الاغتيال وتوفير الغطاء وتحضير البديل لاحقا، ومن ثم الادوات الجنائية التي قامت بالتنفيذ.
فهل تقدم السلطة ورئيسها على هذين التحقيقين بجدية وتسير فيها حتى النهاية دون اي خوف على المفاوضات وغيرها؟ نأمل ذلك رغم شكوكنا.
عن موقع راي اليوم – عبد الباري عطوان