نصر الحادي والأربعين: فلسطين البوصلة.. وكفى
موقع العهد الإخباري-
أحمد فؤاد:
تشابكت الخطوات المتسارعة من كل الأطراف الفاعلة. خطوات ثقيلة متعجلة، بعضها يجري على رمل وصخر، فتزيل الصحاري علاماتها قبل أن تذهب الرياح بها كلية، وخطوات أخرى مغروسة في الطين ومغموسة في الدم، تحفر آثارها على وجه المنطقة وتغرس أصابعها في قلبها الهش والخاوي.
في ظل عاملي التشابك والسرعة، يصبح من الواجب التوقف برهة على الطريق، لإعادة التقييم وإتاحة المجال لرؤية ما تحقق فعلًا، ومنح الفرصة لاستشراف ما هو قادم من تحديات ومعوقات، في ظل حالة تغير المواقف الحادة التي تلف الشرق الأوسط، وقلبت – أو تكاد – المعادلة الإستراتيجية للصراع العربي الصهيوني، رأسًا على عقب، خلال السنوات القليلة الماضية بالتحديد.
بالعودة إلى الوراء 16 عامًا وبضعة أيام، كان شعار الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله يلف العالم العربي بأغرب الصدمات وأعذبها، صدمة القدرة على تغيير وكسر السلاح الأميركي والتابع الصهيوني بالإيمان والإرادة الحرة، وترجم أبطال حزب الله على ساحة المواجهة، بالدم والعرق والألم، شعار “أوهن من بيت العنكبوت” حقيقة واقعة لا تقبل الشك أو الجدل.
الحادث الحقيقي في الشرق الأوسط، والذي غيّر المعادلة، هو بالتأكيد نصر تموز 2006. منذ تلك الأيام لم يعد أي طرف إلى وضعه قبل الحرب على الإطلاق، لا الكيان استطاع تدارك خسارته الإستراتيجية في هذه الحرب، ولا المقاومة عادت حلمًا يغازل الخيال، بل خرجت فاعلًا قادرًا على التغيير، إذا ما ملكت شروط النصر والصمود، ومنحت المثال الحي القائم على قدرة أي شعب على مواجهة مخططات الإبادة وكسر مؤامرات سرقة الأوطان.
دخل الكيان حرب تموز وهو في موقع قوة لا يضاهى، ولا تحلم الدول العربية مجتمعة أن تقف أمام أطماعه أو حتى أن تضع حدودًا لحركته في الإقليم، فكان المخطِّط الصهيوني يعلم أنه يستند إلى القوة العظمى الوحيدة، وبإمكانه أن يذهب إلى أبعد مدى في العنف والتدمير والإرهاب، دون أن يخشى أية عواقب على أفعاله، أو محاسبة على ما ترتكبه قواته من مذابح.
ثم إن الدعم الأميركي، المعلن والمعروف، ودوره الخفي في قيادة وحشد دول التبعية العربية، يضمن للكيان أن يواجه عالمًا عربيًا مفتتًا في قلبه، قد تجره الحماسة إلى بيانات بليغة ومؤتمرات قمة واجتماعات في العواصم، لكنها لا تتحرك جماعيًا استجابة لضرورات أمن قومي يدعمها فهم ويقين كاملان للجغرافيا والتاريخ والمصالح المشتركة، وكونها نظمًا فردية/عسكرية أو عائلية/قبلية، فإن العمل الجماعي بينها يقع في محظور الحماسة ويخاصم في الوقت ذاته اليقين، ما يؤثر بشكل سلبي وعميق على أي عمل عربي، مهما بلغت التطورات ومهما برزت التحديات.
ومع ضمان التفوق الصهيوني الكامل في السلاح والمعدات، فإن المخازن الأميركية القريبة والبعيدة، قادرة على تعويض أية خسائر عسكرية، مهما بلغ مداها أو تعاظم نزيفها، وفي فترة ساعات قليلة، ولعل الجسر الجوي الأميركي في حرب تشرين التحريرية 1973، خير دليل على الجهد الأميركي في دعم كل عمل صهيوني، ففي الأيام الثلاثة الأولى للحرب تمكن الجيشان السوري والمصري من تدمير عشرات الدبابات والطائرات الصهيونية، وقبل أن تطلب “تل أبيب” المدد، كانت الطائرات الأميركية تنقل إلى الجبهات مباشرة الدبابات والطائرات، وتحشد متطوعين من أوروبا الغربية وجنوب إفريقيا لتعويض الطيارين.
وفوق كل شيء، كان المخطط الصهيوني يملك ورقة قوة ساحقة، وهي أن العلاقات العربية الأميركية كانت تصب مباشرة لصالح العلاقات الصهيونية الأميركية، وكانت تلك الورقة فوق ما فيها من أسباب قوة، تجعلها تذهب إلى قرار الحرب مطمئنة إلى أن الظروف – مهما ساءت – لن تتجاوز خطوط الأمان التي وضعتها وتضمنها واشنطن.
وكان التشرذم العربي، والعلاقات المتوترة دائمًا بين الحكام والأسر المالكة، أسبابًا إضافية، تجعل من الكيان المؤقت لا ينتظر مواجهة واسعة في ميادين القتال، سيحارب دولة واحدة في كل مرة، وستظل من بداية الحرب إلى نهايتها دولة واحدة، لن تتدخل شقيقة لنجدة أو تجرؤ أخرى على فتح جبهة جديدة أمام الصهاينة، ومع ضمان التفوق الكيفي على الجيوش العربية، فإن قرار الحرب يستتبعه فورًا في الكيان سؤال تقليل الخسائر لأقصى حد ممكن، وليس السؤال عن النتيجة الوحيدة المطلوبة والمضمونة.
بالمقابل، يذهب الحاكم العربي إلى قرار الحرب مضطرًا وفي الغالب يكون مترددًا، فهو لا يملك القوة العسكرية القادرة على المواجهة، ثم هو لا يتمتع بالدعم الدولي الذي يمكنه الاستناد إليه، وبالتالي امتلاك فرصة تعويض خسائره في حرب مع طرف قوي. ثم إن الجيوش العربية الرسمية – في أغلبها – لم تتحول إلى جيوش وطنية، وتختلط عقائدها بين جيوش صممت لحماية العروش، أو لضمان أمن الحاكم، كما لا تعرف أغلبها حدود نظريّة أمن قومي عربي جامعة، يجري تحت خطوطها التنسيق والحشد وتضمن العمق اللازم لعملية عسكرية مشتركة في أي وقت.
ما خلقه وبثه نصر تموز 2006 في لبنان، هو أنه جاء كهبة سماوية إلى جيل عربي جديد في فلسطين، بالتزامن مع وصول “أوسلو وأخواتها” إلى طريق مسدود، وإفلاس السياسة العربية بشكل عام وكامل، وبالتالي فإن الجيل الذي تفتّح وعيه على النصر الإلهي العظيم، انطلق بإيمان لا يتزعزع وإرادة لا تعرف الاهتزاز نحو حمل قضيته كما يراها، فلسطين من البحر إلى النهر، كاسرًا كل حديث عربي رسمي كان يختزل قضية فلسطين كلها في حدود 1967، ثم يتراجع ليعلنها قضية معابر أو لاجئين.
استطاع الجيل الذي نشأ في حضن أول انتصار حقيقي، أن يعيد لنا من جديد فلسطين، كل فلسطين، الأرض والشعب والتاريخ والمستقبل.
وخلال العامين الأخيرين فقط، فإن مقاومة الداخل الفلسطيني، أعادت لنا أسماء القرى والمدن العربية القديمة، التي ظن الصهيوني أنه محاها من التاريخ، وفي هذا الاسترداد وحده نصر عظيم، يعيد إلى القلب العربي ضالته المنشودة، ويضرب في بهاء وقوة كل نظريات الأمن الصهيوني، التي حاولوا تطبيقها على الشعب الفلسطيني منذ 1948.
وتأتي الأيام الحالية حبلى بالمزيد من أسباب التفاؤل ومعطيات التصدع الهائل في نظرية أمن الكيان، وبالتالي بقائه، فمن جهة يقف تهديد حزب الله بالذهاب إلى “كاريش وما بعد كاريش وما بعد ما بعد كاريش” كسيف على رأس الكيان، وتستكمل العمليات الفلسطينية في قلبه الهش تحطيم صورته المعنوية وتبديد وهم القوة وهدم أسطورة التفوق، الآن وإلى الأبد، لنقف اليوم لا احتفالًا بنصر الأربعين، ولكن بانتظار نصر الحادي والأربعين.