نزار بنات شهيدًا.. موقف وقضية
موقع العهد الإخباري-
ليلى عماشا:
لعلّ من أجمل ايجابيات منصات التواصل المختلفة أنها سهّلت الصلات المباشرة مع الناس الذين يغتني المرء بمعرفتهم ولو كانت افتراضية.. هذه الصلات تتخطى حاجز الافتراض ما إن تجمعنا بالآخرين الذين نتشابه وإياهم في جوانب مختلفة، ونتشارك معهم عددًا لا يُحصى من المشاعر والمواقف، ونتبادل معهم، بناء على أرضيتنا المشتركة، الآراء ووجهات النظر.. فكيف إن جمعتنا بمن هم خلف حدود الاحتلال، الأحرار الذين يخوضون معركتهم على مدار الساعة وفي مجالات مختلفة، ومنها الكلمة ومنها الموقف ومنها الوعي السياسي والوطني؟ هكذا عرف معظمنا اسم نزار بنات وصوته وكلماته الحادة أحيانًا والصادقة في كل حين. وربّما هذا ما ضاعف وقع اغتياله فينا، ليكون الحزن حزنين، حزن على صوت وعقل فلسطيني نقيّ وحزن على صديق لولا الحدود كانت ستجمعنا به المقاهي والجلسات المباشرة، وربما الزيارات المتبادلة..
حال ورود الخبر، استقرّت غصّة في القلب وعبرت موجة الحزن الغاضب كلّ من عرف نزار بنات في مواقفه الواضحة والصريحة حول كلّ ما يجري في المنطقة، كلّ من سمع مداخلاته عبر تطبيق كلوب-هاوس، وكل من تبادل معه فكرة حول همومنا جميعًا.. والأشدّ وقعًا على القلوب كان في تفاصيل الخبر: اعتقل في الليل على يد أجهزة السلطة الفلسطينية وتعرّض أثناء الاعتقال للضرب المبرح، وأنّه بُعيد الاعتقال تمّ اصدار بيان من مستشفى “عالية” عن إصابته بسكتة قلبية بحسب ما تمّ تداوله، وهو ما قاله أيضًا محافظ الخليل.. فبدا نزار المضرّج بالكدمات المرعبة والتي بعضها كسور في الأضلاع، بحسب تقرير الطبيب الشرعي، شهيدًا حاول أحدٌ ما أن ينتزع منه رتبة الشهادة، وينعاه متوفى لسبب أو لآخر.. علمًا أن ابن الخليل وكلّ فلسطين ليس بحاجة لشهادة من أحد باستحقاقه وصف الشهيد، ولا الظروف التي رافقت استشهاده خفية أو غامضة، مهما سعى البعض سعيه للتعتيم على حقيقة الاغتيال، والموت تحت الضرب والتعذيب اغتيال مهما حاول الظالمون تصويره وكأنه قصور في قدرة المعذّب على الاحتمال أو طارئ ألمّ به ولا علاقة له بالظرف الذي وُضع فيه المعتقل!
إلا أن الجارح في الأمر أن تتردّد أوساط صحفية وإعلامية في وصفه شهيدًا، رغم أن القاتل مكشوف الوجه والشهيد معروف الوجهة.. لا يهم، فالشهيد نزار بنات ذو الموقف الأوضح لم ينتظر يومًا من أحد أن يختار له اسمًا أو وصفًا أو منصبًا أو مكسبًا.. فاسمه فلسطين ووصفه، ومنصبه في القلوب مناضل برتبة شهيد، ومكسبه أنّه قال لا حين وضع الكثيرون رؤوسهم كالنعام تحت الرمال وقالوا نعم..
بعيدًا عن الدخول في تفاصيل علاقة الشهيد نزار بنات بالسلطة الفلسطينية، مجرّد استشهاده على أيدي أبناء أرضه ولو لم يكن الاغتيال مقصودًا كما أشار البعض، يشكّل صفعة على وجه كلّ فلسطينيّ ويصنع غصّة لا يُسرّ بها إلّا الصهاينة.. وهنا لا يعود الفارق اسم القاتل أو صفته، فطالما الصهيوني هو المستفيد الأول من الجريمة، فكلّ مشترك فيها شريك للصهيوني ولو من بعيد..
سُرّ الصهاينة باستشهادك يا نزار.. هم يعرفون أنّ صوتًا كصوتك خطر عليهم.. ويعرفون أن وعيًا كوعيك يهدّدهم.. ويعرفون أيضًا أن دمك يوجعنا على امتداد أرض المقاومة..
منذ استشهاده، عرف الذين لم يعرفوا نزار بنات وجهه الذي يمزج ملامح الطيبة بالغضب، وصوته الذي لم يخفت يومًا ولم يخفته الاغتيال، ومواقفه التي منها “الموقف الفلسطيني الشعبي والحقيقي سيعبر عنه البالستي اليمني”.. أما من تابعوه على منصات التواصل وفي المقابلات التلفزيونية، فقد صفعهم الخبر وشعروا بالافتقاد المرّ منذ اللحظة الأولى للخبر. ربما واساهم أن صديقهم الصادق بلغ المجد شهيدًا، لكن جرّحهم وبشدّة أن يكون اغتياله قد تمّ على يد كان الأجدى بها أن تخرج عن طوع التنسيق الأمني وتتوحد مع كل يدٍ تقاتل الصهاينة، كي يكون الحديث عن الوحدة الفلسطينية واقعًا يهدد وجود الكيان، ويزيله.
لم يكن نزار بنات ذلك “الناشط” الذي يبحث عن مكان له في هذا العالم الافتراضي.. كان حقيقيًا إلى الحدّ الذي يخلق له حيّزًا في العقول وفي القلوب وفي مقدّمة من يطيب الاستماع إليهم حين يتحدثون..
حدّته لم تكن استعراضًا يكثّف شكل حضوره متحدثًا، كانت غيرة الرجل على الحق، لهفته لإحقاقه، غضبه لأن بعض القوم خانوا وتآمروا، وعتبه الجميل..
معاداته الحذرية لكلّ من يخدم الصهيونية، عن سبق إصرار أو عن جهل، كانت تلقائية وشديدة الوعي والتنظيم في آن، بحيث لا يحتاج إلى جهد التنميق أو التبرير المسبق حين يطلق موقفًا قد لا يستسيغه حتى الأقربون..
ولهذا، كان نزار بنات يجيد تقدير الموقف في كلّ قضية وعند كلّ حدث، ومعياره الحقّ دائمًا.. وفلسطين مرادف الحقّ الأكثر دقّة وجمالًا..
يوم قال “لا” عرف نزار أن آخر “لائه” نصر أو استشهاد، واستشهد منتصرًا.. وما عدنا نملك إلا العودة إلى تسجيلاته، لنصغي مرارًا إلى “لا” التي قالها نزار بنات ألف مرة، ونذوب حبًا وحزنًا أمام صورته الناطقة.. نزار الذي خرج من بيوتنا عزيزًا برتبة شهيد حرّ، باقٍ فيها، رغم الدمع الذي يهمس له “وداعًا”..