نحو قانون إدارة محلية يؤسس لهوية مصلحية تعيد لم شمل السوريين
صحيفة الوطن السورية-
الدكتور مازن جبور:
سؤال الهوية، من أكثر الأسئلة تعقيداً على مر التاريخ، ويزداد هذا التعقيد في الأزمات والحروب، إذ تفقد الهويات العاطفية التي تنشأ على البدهيات التي تشترك فيها الجماعة من لغة وتاريخ وجغرافيا وغيرها، قدرتها في الحفاظ على الجماعة موحدة في هوية واحدة، ويضيع الولاء باتجاه تحقيق المصلحة للفرد أولاً، ولجماعته دون الوطنية أو فوق الوطنية ثانياً، وهذا نتيجة طبيعية، تجعل من مهمة البحث عن مسار هوياتي يحقق التطابق بين الولاء والانتماء، مسؤولية جماعية على عاتق المؤثرين في رأي الجماعة وأفرادها.
يوماً بعد آخر تعمق الحرب من انقسامات السوريين، سواء من حيث زيادة الشرخ بينهم حول انقساماتهم التاريخية من قبلية وعشائرية وطائفية وعرقية وغيرها من أشكال الانقسام التي اتسم بها المجتمع السوري تاريخياً، أو من حيث قدرة الحرب على خلق انقسامات جديدة في التكوين المجتمعي السوري، ويبدو أن الانقسام الأول الذي أفرزته الحرب كان بين وطني ولا وطني، وهو انقسام مثالي، يلغي كل الانقسامات الأخرى التي تصبغ السوريين بصفات متعددة، وبالتالي الحفاظ على صفة موحدة لحاملي الهوية السورية، هذا الانقسام يجعل من السوري هو كل فرد ينتمي إلى قيم ومبادئ المجتمع ويواليها، وينتمي إلى الجغرافيا السورية الموحدة المستقلة وذات السيادة، ويدافع عنها، أي بمعنى أن الولاء يكون للأرض وما أنتجته التفاعلات البشرية على سطحها من قيم ومبادئ، تبناها المجتمع كله، وليس انتماء لجزئية، سواء عرق أو دين أو قبيلة أو عشيرة أو سلطة أو غيرها.
ومن ثم فإنه من أجل وعي الهوية لا بد من وعي الانتماء، لأن وعي الهوية لا يتعين إلا به، فالإنسان عندما يفقد شعوره بالانتماء يفقد شعوره بالهوية، فقد ينتمي الإنسان إلى أمة أو وطن أو دين أو مذهب أو قبيلة أو قومية أو حزب أو جماعة أو عائلة… الخ، وانتماؤه هذا يعني الارتباط الذي يعبر عنه من خلال سلوكه وحياته، فالانتماء جزء لا يتجزأ من أي منظومة اجتماعية، وهو سلوك الفرد بالانتساب إلى أصل أو جماعة، تحقق له ذاته ووجوده، وتعطيه مكانة في محيطه، وهو يعكس معنى الكلية والاحتواء في إطارها.
لقد بات الشعور بالانتماء لدى السوري مهدداً وصار الإنسان السوري شاعراً بهذا التهديد، الأمر الذي حرك لديه الشعور بضرورة العمل على تعزيز انتمائه لهوية تتوافق مع واقعه، فالهويات المهددة والمنعزلة، التي لا تشارك في حاضر العالم، لا انتماء إليها، ومن ثم فإن الهويات الباقية والمتجددة إنما هي الهويات والانتماءات المشاركة في تقدم العالم عن طريق الانخراط فيه، والمنافسة في نطاق قيمه وأعرافه.
تختلف دلالة الولاء عن دلالة الانتماء، إذ إن لكل منهما دلالة مختلفة عن الآخر، فبينما يعكس الانتماء مفهوم الكلية، يعكس مفهوم الولاء الدلالية الفردية المباشرة لحقيقة وجود الناس في إطار حرية اختيارهم وفقاً لمصالحهم الحياتية، ولاتجاهاتهم وميولهم في الفكر والسياسة، أي بمعنى أن الولاء يكون وفق المصلحة، فقد يكون الإنسان منتمياً لهوية ما ولكن ولاءه يختلف عن انتمائه، فمثلاً إنسان سوري، ولكن ولاءه قد يكون لجهة غير سورية، جهة تحقق مصالحه، وفي مقدمتها مصالح الرفاه والتنمية، أو بشكل أدق الوفرة الاقتصادية التي تؤمن له الاستقرار، وهذا هو واقع جزء من السوريين حالياً، فما الطريقة لإقناع شاب سوري تلقفته أوروبا وأمنت له حياة كريمة وفرصة عمل مهمة بالعودة إلى سورية المنهكة بالحرب.
لقد حاول المفكر العربي محمد عابد الجابري تقويم العقل العربي من خلال نقده في سلسلة كتب مؤلفة من أربعة أجزاء بعنوان: «العقل السياسي العربي: محدداته وتجلياته»، التي بحث فيها في آليات اشتغال هذا العقل ومحدداته ومكوناته، لا بوصفه مخزوناً فكرياً ونظرياً ومعرفياً لمختلف القضايا والموضوعات والإشكاليات التي اشتغل فيها وبها الفكر العربي منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى اليوم، بل بوصفه أداة للتفكير في تلك القضايا، وأداة لإنتاج المعرفة، ومن ثم أداة لإعادة إنتاج الثقافة العربية، التي أسهمت عناصرها واتجاهاتها وتناقضاتها، في تحديد مكونات هذا العقل بمستوياته المختلفة، المعرفية والسياسية والقيمية، وهنا يرى الجابري أن العقل السياسي العربي يملك ثلاثة محددات تتولى تنظيم فعله السياسي، وهي: «العقيدة والعشيرة والغنيمة»، والتي بدورها تشرح لنا الكثير مما نراه اليوم من عوامل تمزق في الوحدة المجتمعية والجغرافية السورية، على اعتبار أن العقل السياسي السوري جزء من العقل السياسي العربي.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، كيف يمكن لنا أن نحقق التطابق بين الولاء والانتماء لدى السوريين؟ سؤال يمكن أن نستخلص جوابه من محددات الجابري ذاتها لبنية العقل السياسي العربي، بحيث نجعل العقيدة، عقيدة وطنية، والعشيرة هي الجماعة السورية المتعددة التكوينات، ويبقى الأهم هو في تحقيق الغنيمة، فالغنيمة هي أساس الولاء في عالم اليوم، كيف يمكن لنا أن ننتج سورية جديدة تتراجع فيها العقيدة الدينية لمصلحة تفوق العقيدة الوطنية التي هدفها الحفاظ على وحدة وسيادة واستقلال سورية؟ وكيف نتغلب على الانتماء إلى العشيرة بالانتماء إلى الجماعة الوطنية الكبرى، التي قوامها المجتمع السوري ككل؟ وكيف يمكن لنا أن نصنع غنيمة كبرى يتقاسمها الجميع بعدل؟
يمثل تحقيق مستوى عال من المشاركة في إدارة الدولة السورية، الخيار الأمثل لبناء عقيدة وطنية تتكاتف فيها الوحدات الإدارية من الأصغر إلى الأكبر بشكل هرمي تسلسلي وتتبادل المصالح، نحو تحقيق بناء دولة عصرية لا مركزية متماسكة، يشترك الجميع في تحقيق وحدتها وسيادتها واستقلالها، وفي هذا الخصوص يمثل إيجاد قانون إدارة محلية عصري، الخطوة الأهم، مع ضرورة الانتباه إلى أن مصطلح «المجالس المحلية» الخاص بإدارة الوحدات الإدارية، يحمل تعبيراً مجتمعياً، ومن ثم فإن قولبته ضمن قوالب قانونية تجعله أداة بيد السلطة التنفيذية ما يفرغه من مضمونه، ويحول أعضاءه من أفراد منتخبين من المجتمع إلى موظفين حكوميين يعملون تحت إمرة السلطة التنفيذية، الأمر الذي يفرغ عملية المشاركة الشعبية في إدارة الشأن العام من مضمونها، وهو ما يقتضي سن قانون جديد يتم فيه تفعيل دور المجالس المحلية بشكل حقيقي، مع جعل المناصب جميعها في الإدارات المحلية تمر عبر الانتخاب بما فيها منصب المحافظ.
أما مشكلة العشيرة، وبعد أن فشلت البنى المختلفة في الدول العربية ومنها سورية، من أحزاب ونقابات واتحادات وغيرها، في تشكيل بنى جديدة ينضوي فيها الفرد، فقد آن الأوان لترك تلك البنى المترهلة جانباً، والبحث عن بنى حداثية جديدة، وبالأحرى إيجاد تلك البنى من خارج الصندوق، بحيث تكون قادرة على لمّ شمل السوريين مجدداً، والتي تمثل المواطنة المضمونة بسيادة القانون الأساس في الانتماء إليها، فمثلاً يعد إحداث هيئة سورية للشباب نموذجاً جديداً لتقسيم المجتمع السوري على أساس العمر.
أما الغنيمة، فهي المسألة الأساس، بتعبير شعبي «مربط الفرس»، على اعتبارها الأكثر قدرة على تحقيق التطابق الفعلي بين الانتماء والولاء، والأساس لاقتسام الغنيمة: العدل والمشاركة في الحكم، لتكون بذلك التنمية القادرة على تحقيق رفاه الإنسان «مربط الفرس» في الغنيمة العادلة، وغنيمة السوريين الكبرى في تسخير قدراتهم وإمكاناتهم للاستثمار في وطنهم، والإحساس بأنهم جزء من النشاط الاقتصادي والاستثماري فيه، عبر تفعيل مفهوم الإدارة المحلية، وأن مصلحتهم الحقيقية في بنائه وتطويره والحفاظ على أمنه واستقراره، وذلك بإيجاد بيئة تُقنع السوري بأن مصلحته في أن يكون سوري الانتماء والولاء، أي إيجاد هوية مصلحية، تجعل السوري مدركاً لحقيقة أن الحفاظ على مصلحته مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحفاظ على هويته، التي قوامها الانتماء والولاء لوطنه ومجتمعه.