نحن في زمن «داعش»
صحيفة السفير اللبنانية
منير الخطيب
النقاش الدائر حول أصل «داعش» بات مملاً، لا بل يثير الغثيان. الحديث عن ارتباطاته الاستخباراتية، العربية أو الاميركية أو الإسرائيلية، استخفاف بعقول الناس عموماً، وسكان بلاد الشام خصوصاً، هذا إذا بقي بينهم من يحفظ رأسه فوق كتفيه، قبل الحديث عن عقله.
هي فعلاً معضلة. «داعش» ربيب طهران ودمشق؟ أي أن الأصولية السنية المتطرفة رأس حربة في «الهلال الشيعي». وبشار الأسد يسيطر على الأرض من سواحل المتوسط الى جرود القلمون فالبادية العربية الى الموصل ومنها الحدود السعودية العراقية.
اما أن يكون «البنتاغون» قد أنبت هذا الوحش، فمسألة تفوق الخيال الأميركي، فكيف بالمنطق. «داعش» الابن الشرعي لـ «القاعدة» وهو الابن البار لـ «طالبان»، ومن قبلهما «المجاهدون الأفغان والعرب» الذين سددوا خدمات جلى للأميركيين، ولكنهم أسقطوا البرجين في نيويورك. وانقلب السحر على الساحر.
«داعش» ومسمّياتها الأخرى فأر تجارب، خرج عن سيطرة المختبر وتضخّم خارجه وبات القوة الصاعدة الأولى في العالم، والمنغمسة في معظم دوله. وعرفت البادية العربية حالات مشابهة في ظل العصور الأموية والعباسية والعثمانية، وقبلها وبعدها. في كل يوم، يظهر مشعوذ بطموحات إلغائية، وشعارات إلهية، يوزع صكوكاً للجنة، مع خريطة طريق.
الحالة الداعشية باتت تبسط سلطانها على مساحات واسعة تتمدّد بسرعة قياسية، حجمها عند قراءة المقال هذا، أكبر بالتأكيد من حجمها عند كتابته. والأسوأ أننا دخلنا في مرحلة استعراض حسنات نظام دولة الخلافة. القضاء سريع، وأسعار السلع ثابتة، والتعليم مجاني، كذلك الطبابة، طبعاً بمفاهيم الشرع وأصوله، كأن تدور الشمس حول الأرض الثابتة في مكانها.
وبعد البكاء على تدمر، وقبلها الموصل ونمرود وباميان في أفغانستان. وبعد زوال سكرة إزالة التنظيم بقرار، نرى اليوم أن «داعش» بمحاذاة منطقتين حدوديتين يتدفق عبرهما السلاح والمال والمقاتلين من دون تقنين. الحدود التركية – السورية، والحدود العراقية – السعودية. أي قلب البادية. وهي أرض صحراوية شاسعة مترامية الأطراف، خصبة بأفكار القتل والتكفير. قبل نحو مئتي عام، عبر البادية ابراهيم باشا، أبن محمد علي باشا حاكم مصر، بعدما مرّ بسواحل لبنان وسوريا، ومنها الى البادية وصولاً الى نجد والدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى، للقضاء على الحركة الوهابية. وعلى الطريق ذاتها خرجت حملات مماثلة ومضادة، في تكرار دموي لتاريخ خارج العقل الى يومنا هذا.
إعادة رسم الخرائط دموياً ليس غريباً على المنطقة. ولا تتجاوز مدة صلاحية هذه الخرائط المئة عام عادة، ولو في ظل دول مركزية قوية. الإمارات منتشرة ومتناسلة. والخوف كل الخوف، أن نكون دخلنا مرحلة مشابهة. الدول الكبرى في مصلحتها أن يُنهَك الجميع، من ايران الى سوريا وحتى أصدقاء واشنطن، لأن الانظمة الحليفة غير الشرعية غير آمنة ولو كانت مستقرة، ومن الصعب الركون اليها، ومن المستحيل تقدير لحظة انهيارها.
بقعة الضوء في هذه الحالة ربما تكون لبنان المعتلّ، لا لمناعته أو لقوة جيشه ومقاومته. بل لتعدديته. ما يصح في البادية لا يصحّ في السهل والجبل. التنوع ليس حكراً على المناخ. اللبنانيون مسلمون ومسيحيون، متنوعون متعددون لا يستطيعون مساكنة «داعش». في لبنان، من المستحيل أن يسلم الجيش ثكناته ومستودعات أسلحته للداعشيين. ومن المستحيل ان ترفع على أبنيته الأعلام السود. غداً نقول من جديد «نيال مين عندو مرقد عنزة بجبل لبنان». خلاف ذلك القيامة.