مونديال قطر يفضح هشاشة التطبيع الخليجي
موقع الخنادق-
حسن صعب:
كشفت التقارير والفيديوهات العديدة التي تداولتها وسائل الإعلام ومنصّات التواصل العربية والإسرائيلية من قطر حول احتفالات انطلاق مونديال 2022 لكرة القدم، أن “إسرائيل” فشلت بشكل ذريع في اختراق حائط الصدّ الشعبي الخليجي (والعربي) للتطبيع معها، مقابل نجاحها المثير، ولو المتدرّج، طيلة السنوات الأخيرة، في تسجيل عدة أهداف في مرمى خصومها، عبر هدم جزء من جدار المقاطعة العربية الرسمية لها، من خلال معاهدات “سلام إبراهيمية” واتفاقات تطبيع متلاحقة بينها وبين وعدد من الدول الخليجية والعربية، مثل الإمارات والبحرين وعُمان والمغرب والسودان، خلال الأشهر الأخيرة من ولاية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، في العام 2020.
لقد أظهرت ردود فعل أغلب الذين حاولت قنوات إسرائيلية استدراجهم أو جسّ نبضهم حول وجود مشجّعين إسرائيليين في قطر، مع استغلال تلك القنوات لحالات الاسترخاء والحماس في الوقت نفسه لدى الشباب العربي الموجود في قطر، أن الشعوب الخليجية لم تستسغ بعد فكرة أو استراتيجية التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، التي تبنّتها أنظمتها السياسية، حيث حاولت وسائلها الإعلامية إظهار عكس تلك الصورة خلال الأشهر الماضية، وذلك لأسباب عقيدية ودينية وأخلاقية بالدرجة الأولى؛ وهذه الأسباب قد يستحيل أمر معالجتها على أي سلطة محلية أو خارجية مهما علا شأنها.
اسمها فلسطين فقط
كأنموذجَين بارزين نذكر ردود فعل مواطنين عرب عند تماسهم مع مراسل قناة تلفزيونية إسرائيلية؛ وكذلك موقف مجموعة من الشبّان اللبنانيين الذين استهانوا بحديث مراسل إسرائيلي معهم، مُنكرين وجود دولة اسمها إسرائيل؛ فهناك بلد اسمه فلسطين فقط.
لقد باءت محاولات مراسلي الإذاعة العامة الإسرائيلية (كان) لإجراء مقابلات مع مشجّعين عرب بالفشل. وقال مراسلو القناة 12 التلفزيونية الأبرز في إسرائيل لرويترز، إنّ من قابلوهم كانوا يبتعدون عنهم. وأظهرت لقطات متداولة على الإنترنت مشجّعين سعوديين ومتسوّقاً قطرياً وثلاثة مشجّعين لبنانيين يبتعدون عن المراسلين الإسرائيليين.
وقال مراسل “القناة 13” في تقرير على الهواء، إن مشجّعين فلسطينيين نظّموا احتجاجاً بالقرب منه، مُلوّحين بأعلامهم وقائلين: “إرحل”.. فيما قال المتحدث باسم الوفد الإسرائيلي إنه لم ترد تقارير عن إساءة معاملة ما يُقدّر بعشرة إلى 20 ألف مشجّع إسرائيلي. لكنه أقرّ بوقوع “بعض الحوادث” التي شملت وسائل إعلام إسرائيلية!
وقال المواطن السعودي خالد العمري، الذي يعمل في صناعة النفط وجاء إلى قطر لدعم فريق بلاده، لرويترز، إنه يأمل ألاّ يصبح المسار الجويّ بين تل أبيب والدوحة دائماً.
وأضاف: “إن شاء الله بعد ما ينتهي كأس العالم يتوقفون عن هذا الأمر (الرحلات الجويّة). بالطبع أغلبية البلاد العربية يذهبون نحو التطبيع لأن الأغلب ليس لديهم حكامًا يسمعون الشعب”.
كما أشار مراسل “القناة 12” العبرية في قطر أنه رغم التوقيع على أربع اتفاقيات تطبيع، إلاّ أن “غالبية الشعوب العربية لا تحب وجودنا هنا”.
وفي السياق، كان استطلاع للرأي أجراه معهد واشنطن أخيراً أظهر أن نسبة مؤيّدي “الاتفاقيات الإبراهيمية” في المملكة العربية السعودية والبحرين والإمارات العربية المتحدة قد تراجعت عن العام الماضي.
وكشف الاستطلاع أن أكثر من ثلثي المواطنين في البحرين والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ينظرون إلى الاتفاقات الإبراهيمية نظرة سلبية، بعد أقل من عامين من توقيعها.
الأنظمة المطبعة تواجه أزمات مع شعوبها
وبالفعل، فإن الدول العربية المطبّعة تواجه حالياً أزمات داخلية مع شعوبها التي تطرح أسئلة محورية حول شرعية أنظمة الحكم وعن خلفية اتجاهها نحو التطبيع مع “إسرائيل”؛ خصوصاً وأن القضية الفلسطينية لها قدسيتها لدى الشعوب لارتباطها بالمقدسات الإسلامية في القدس، ولكونها أيضاً قضية ظلّت تمثّل حالة من الإجماع في المخيّلة العربية لعقود طويلة؛ وغنيٌ عن البيان أن أي خرق لهذه المسلّمات في الذهنية الخليجية يمثّل نوعاً من الخيانة – على الأقل – بالنسبة لشريحة واسعة من المجتمع.
كذلك، يمكن إحالة هذا الرفض الشعبي الخليجي (والعربي) للتطبيع مع الكيان المؤقت، على الرغم من “فوائده” أو عوائده المنظورة أو المرتقبة، ضمن الأطر السياسية والأمنية والاقتصادية للأنظمة المطبّعة، وتحديداً في مواجهة إيران والمنظمات المعارضة لتلك الأنظمة، يمكن إحالته إلى الجذور الدينية والثقافية الراسخة لدى شعوب المنطقة، والتي تأبى أن تسلّم بوجود الكيان الغاصب لفلسطين مهما حصل من تغيرات أو تحوّلات في موازين القوى، ومهما فعلت الأنظمة العربية المطبّعة من أجل تزيين مؤامرة الاعتراف بهذا الكيان والتعامل الطبيعي معه.
ولا بدّ هنا من ذكر قضية الشيخة مي بنت محمد آل خليفة في البحرين كأنموذج آخر، والتي دفعت (منذ عدة أشهر فقط) ثمن رفضها التساهل مع أي محاولة للتطبيع الثقافي بين بلدها والكيان الإسرائيلي. فوسط تصفيق حار ممزوج بالدموع، اصطفّ العشرات من موظفي وزارة الثقافة والآثار البحرينية على جانبي الممر الذي خرجت منه الوزيرة مي آل خليفة، تطبيقاً لقرار إقالتها بسبب رفضها مصافحة نظيرها الإسرائيلي “إيتان نائيه”.
إن الإشادة بموقف آل خليفة ودعمها في مواقع التواصل الاجتماعي من قِبل شخصيات رسمية وشعبية، لم تكن مجرّد حدث عابر، وإنما حالة شعبية تعكس المزاج الخليجي تجاه التطبيع مع دولة الاحتلال.
وقد اعتبر الكاتب القطري جاسم فخرو، إقالة آل خليفة تأكيداً على اتساع الفجوة بين الحكومات والشعوب العربية فيما يخص التطبيع؛ بينما كتبت المغرّدة البحرينية باسمة القصّاب: “إذا كان صحيحاً ما يُتداول من أن رفض التطبيع هو ما أطاح بوزيرة الثقافة مي آل خليفة، فإنه سيُحفظ لها قولها لا للكيان المحتل”.
التطبيع الثقافي: الحلقة الأشد خطورة
وربما يُعدّ التطبيع الثقافي الحلقة الأشد خطورة في إعادة العلاقات بين الدول إلى حالتها الطبيعية، لارتباط الثقافة بالضمير الجمعي للشعوب؛ فمن الثقافة تتشكّل مواقف الناس ورؤيتهم للعلاقات، ومواقفهم إزاء القضايا المشتركة. ومن هنا تلجأ الدول إلى نشر ثقافتها والتأثير في ثقافات الدول والشعوب الأخرى قصداً من أجل استمالة الشعوب المستهدفة في التطبيع، وردم الفجوات السياسية بين الشعوب.
لكن ما يعيق محاولات الكيان المؤقت المستميتة لإطلاق التطبيع “الثقافي والنفسي” مع الدول العربية، عدا عن كونه يحتلّ أرضاً عربية في فلسطين (كما في لبنان وسوريا) ويمارس جرائم حرب كبرى ضد شعبها، أنه ليس دولة طبيعية في نشأته وتكوينه ونموّه المادي والسياسي، وهو لا يشبه محيطه في أي شيء؛ فالكيان الذي استطاع، بعد جهود حثيثة ومتواصلة منذ عقود، وبدعم أميركي كامل، أن ينسج شبكة علاقات سياسية ودبلوماسية وعسكرية وأمنية واقتصادية وتجارية مهمة، بل وخطيرة مع العديد من دول المنطقة، قد فشل حتى الآن (وسيفشل مستقبلاً) في اختراق حائط الممانعة العربية والإسلامية الصلد لوجوده، كما لمشاريعه العدوانية؛ وهذا ما حاولت بعض وسائل إعلام الكيان اختباره في مونديال قطر 2022، بدفعٍ من قياداتها السياسية والاستخباراتية، لكنها فشلت فشلاً ذريعاً ومخزياً.. والقادم أعظم.