من يدير الحرب النفسية في فلسطين؟
موقع الخنادق-
زينب عقيل:
على الرغم من تعاظم الاستقواء الاسرائيلي ومحاولة استفراده بالفلسطينيين معركة بعد أخرى، قفزة نوعية حققتها المقاومة الفلسطينية منذ عملية الجرف الصامد عام 2014. إذ تمكّنت من نشر الرواية الفلسطينية الحقيقية للأحداث، بعد تاريخ طويل من التضليل الإسرائيلي للرأي العام العالمي والسيطرة على وسائل الإعلام الأساسية إلا ما ندر. بدأ الخرق الكبير خلال أحداث سيف القدس. فبعد سنوات من النضال لأجيال متعاقبة، تمكّن الفلسطينيون من تطوير أساليبهم من خلال صنع المعادلات. وبدأت تتعاظم قدراتهم في الحرب النفسية على كافة المستويات، سواء على مستوى قيادات الفصائل، أو على مستوى الشعب الفلسطيني نفسه. فالتمسك بالحق يعطي دفعًا لقوة نفسية هائلة، يترجمها الغزاويون من خلال صمودهم وتصريحاتهم البليغة بالتمسك بالحق والأرض، ويترجمها المقدسيون من خلال ابتساماتهم لدى اعتقالهم، وجرأتهم في مواجهة الصهاينة بالسلاح الأبيض، سواء كان رشقًا بالحجارة أو بالدهس. أو بالجرأة على استفزاز الإسرائيليين في حرم القدس الشريف، من خلال الشعارات التي يرددونها. ويترجمها المقاومون بتعاظم قدراتهم العسكرية وعلى مستوى التخطيط. وفي غزة، معنويات الأطفال هي حكاية حرب نفسية فريدة، فهؤلاء يثبتون نكبة بعد نكسة، أنّ ما تعوّل عليه إسرائيل من الانهزام النفسي للأجيال الجديدة، ليس إلا هزيمة واضحة الملامح للكيان الصهيوني بأكمله.
محمد الضيف: سلاح نفسي متفوّق
“حط السيف قبال السيف احنا رجال محمد ضيف”، من أبرز الشعارات التي يرددها الفلسطينيون عند أي مواجهة مع الاحتلال وحتى المقدسيون يرددونها في جنازاتهم وزفات أعراسهم، لبثّ الحماس في قلوبهم، ولبثّ الرعب في قلوب المستوطنين. في المواجهات في معركة سيف القدس، في حي الشيخ جراح وساحة باب العامود، قام ضابط شرطة إسرائيلي بالطلب رسميًا من الشباب: “اهتفوا لمن شئتم إلا لمحمد الضيف”. فعمد المقدسيون إلى تكرار هذا الهتاف، وعمدت سلطات الاحتلال إلى اعتقالهم. يعرف الفلسطينيون جيدًا ماذا يحصل للإسرائيليين لمجرد ذكر هذا الاسم، إنه يهدد سيادتهم! حتى بات اسم الضيف مقدمة معتادة للمواجهات في القدس.
على الخط الآخر، عام 2018، جلس في استديو التحليل الخاص بالقناة العاشرة الصهيونية مجموعة محللين ليتفقوا على قراءة واحدة، مفادها أن محمد الضيف هو من يقرر الحرب والسلم بين الصهاينة والفلسطينيين. وهو الذي يقرر متى تبدأ الحرب ومتى ستنتهي. “أولًا عليكم أن تعرفوا أن الاستخبارات والرقابة قررت لنا ماذا نقول، ثانيًا يقول الجيش الإسرائيلي لا تخافوا لا يوجد حرب قريبة، هذا ما أستطيع أن أقوله بعد تدخل الرقابة العسكرية، لكن كلمة السر في الموضوع أن إسرائيل وحماس يتبادلان الرسائل عبر طرف ثالث، هيا بنا بدون حرب، أرادوا من خلال التقارير العسكرية أن يهدئونا فوتّرونا، وعيوننا على التقارير التي ليس عليها رقابة وتقول محمد الضيف هو الذي يقرر الحرب وليس أنتم”. يقول المراسل العسكري في استديو التحليل. فتتدخل مديرة التحليل فتقول: “علينا أن نعرف أن محمد الضيف يأخذ وقت بين معركة ومعركة لإعداد معركة، هو لا يفكّر إلا بالمعركة”، ثم تتوجه إلى الخبير في الشاباك لتسأله عن الحلّ مع محمد الضيف، هل هو مصاب، هل فقد عينه، هل هو مقعد على كرسي؟ فأجابها “دماغه يعمل وهو مسيطر على كلّ الأمور”. الواقع أن محمد الضيف، قائد الجناح العسكري لحماس، هو المهندس الأول للوعي الإسرائيلي.
ثمّ عاد محمد ضيف إلى مستويات النقاش على الشاشات وفي التصريحات الرسمية مع طوفان الأقصى، إنه “حكيم جدًا وحازم جدًا وذو كاريزما كبيرة. وهو ملتزم ومصمم تمامًا على مهمته على الأرض. إنه على استعداد للموت” يقول كوبي مايكل ضابط المخابرات وأول قائد لجهاز التنسيق الأمني الإسرائيلي الفلسطيني في قطاع غزة.
الحرب النفسية الفلسطينية كاريزما بلا ملامح وجه
تقنية جديدة تسجّل براءة اختراع باسم الحرب النفسية الفلسطينية، ليس ثمة معنى لهوية الشخص الناطق باسم المقاومة الفلسطينية، والمعنى كلّه في اللثام الأحمر للكوفية الفلسطينية، شخص مجهول الهوية، يصبح أمة في رجل. رجل بلا ملامح إلا من ملامح الكوفية الضاربة جذورها في التاريخ، تملأ المكان والزمان العربي والعالمي ببيانات المقاومة. ينتظر العدو قبل الصديق ذو الكوفية الحمراء ليقول أي شيء حول مستجدات المعركة، حتى إنه لا معركةً حقيقية بالنسبة لإسرائيل قبل أن يخرج أبو عبيدة ليقول شيئًا.
إنجازات عسكرية ونفسية تحقق أهدافها
الحرب النفسية الفلسطينية تأتي جنبًا إلى جنب الأهداف العسكرية، أو تسبقها أو تتبعها. نجحت المقاومة الفلسطينية في الأهداف الميدانية تمامًا كما نجحت في الأهداف النفسية، عاينا ذلك في عملية الجرف الصامد عام 2014 وعايناه في سيف القدس 2021، بزخمٍ أكبر وقوة أشدّ، واشتدّ وتألّق في عملية طوفان الأقصى 2023، لأول مرة في التاريخ، يعبر المقاومون من السجن الكبير في غزة إلى أراضيهم المحتلة، ويتمكنون من شلّ الجيش الإسرائيلي، وأسر وقتل عدد كبير من الضباط والجنود. إنها صفعة تاريخية لن ينساها أحد من المستوطنين ولا الجنود ولا القادة، مهما فعلوا من تدمير في غزة، أو التهديد بالاجتياح البري (والتي يظنّ أغلب الجنود الإسرائيليين أنها استدراج ونجاح من المقاومة الفلسطينية أيضًا)، كل ذلك أدى خلال الحروب السابقة إلى نتائج تمّ تثبيتها وتعزيزها من خلال عملية طوفان الأقصى، وهي:
– بث اليأس والوهن ليس فقط في نفوس جنود جيش الاحتلال، بل في نفوس المستوطنين، فمنهم من بدأ بالهجرة العكسية، ومنهم من بدأ بالتفكير جديًا بذلك، وهو الأمر الذي يؤثر على المستقبل الوجودي للكيان.
– تشكيك المستوطنين في قدرات جيشهم ومن خلفه دولتهم على مستوى الحماية والسياسة.
– بثّ الطمأنينة والثقة في نفوس الفلسطينيين الأمر الذي يعزز صمودهم، وعند رؤية الإنجازات فإنهم يعبرون أكثر عن احتضانهم لمقاومتهم.
– إضعاف مصداقية التقارير الإسرائيلية، فالإسرائيليون والفلسطينيون يصدقون الإعلانات والتصريحات القادمة من غزة فقط.
استمرار حالة الإحباط المسيطرة على جمهور العدو وجيشه
مهما انتقمت الآلة العسكرية الإسرائيلية فإن معنويات الجنود لديها لن ترتفع لدى قصف بنك أهدافه الذي غالبًا ما يكون من المدنيين العزّل الفلسطينيين، بل إن ذلك يغرقه أكثر فأكثر في مستنقع الإحباط. خاصة أن المقاومة الفلسطينية، وإن كانت ترد الصاع بأقل من صاع، إلا أن صاعها أكثر نوعيّة وقدرة. نظرًا لمعنويات الاحتلال الضعيفة على الرغم من تلك القوة التكنولوجية التي يتفوقون بها، ونظرًا للقوة النفسية الناجمة عن التمسك بالحق لدى الفلسطينيين.
دور مواقع التواصل الاجتماعي في الحرب النفسية الفلسطينية
من الواضح أن حكومة الاحتلال تعلّمت من دروس الحرب النفسية التي حصلت خلال سيف القدس. إذ يمكن ملاحظة التحيّز غير المنطقي للإعلام الغربي التقليدي لصالح الإسرائيليين، تمامًا كما حصل في بداية الحرب على أوكرانيا. أما في الإعلام الجديد، قبل طوفان الأقصى وخلال زيارته إلى كاليفورنيا، التقى نتنياهو بإيلون ماسك، وطلب منه المزيد من التقييد، ووَضع حدّ لما يسمونه “معاداة السامية” على منصّته X. ومع فيسبوك، من المعروف أن لدى حكومة الاحتلال موظفًا بمثابة ضابط تنسيق. وكالعادة، تم توقيف آلاف الحسابات وتخفيض حجم التفاعل لأي محتوى متعاطف مع الفلسطينيين. كما تمّ حظر استخدام المصطلحات الدالة على الأزمة الإنسانية في غزة، ومجازر جيش الاحتلال.
وعلى الرغم من ذلك، وكما لم يحصل من قبل، يتعرّف العالم اليوم على مظلومية الشعب الفلسطيني. ربما كان الزخم على مواقع التواصل أكبر لدى معركة سيف القدس. خاصة في الدول الغربية الأكثر تضليلًا لشعوبها والتي تمارس التأطير والتعتيم الإعلامي لتظهر الكيان الإسرائيلي بمظهر الضحية. وعلى الرغم من القيود التي تفرضها منصات التواصل الإلكترونية، إلا أنه لم يعد ثمة حقيقة محجوبة، وأي تعاطف مع إسرائيل فهو اليوم على مستوى الحكومات والأجهزة الرسمية، وليس على مستوى الشعوب. واقع جديد مليء بمقاطع الفيديو للأطفال الفلسطينيين أمام منازلهم المهدمة، وأخرى إنفوغرافية تظهر الحقائق التي تجري على أرض فلسطين، أو من خلال الحسابات المتداخلة التي جعلت الثقافات منفتحة على بعضها البعض.