من “الناتو العربي”… إلى “الناتو الشرق أوسطي”… الرسائل والدلالات
موقع قناة الميادين-
شاهر الشاهر:
فكرة تغيير اسم الحلف من “الناتو العربي” إلى “الناتو الشرق أوسطي” ليس لها سوى معنى واحد، وهو وجود “إسرائيل” ضمن هذا الحلف.
شهدت الأسابيع الماضية تحركات عربية غير مفهومة ربما، نتيجة لضرورات تعيشها تلك الدول، واستحقاقات لم يعد بالإمكان تأجيلها. ولعل الحدث الأهم هو طرح فكرة “الناتو الشرق أوسطي”، بعد أن كان “ناتو عربياً”، فما هي الدلالات؟ وماذا يُراد من هذا المشروع؟
الناتو… وزوال مبرّرات وجوده:
كان الهدف من تأسيس حلف شمال الأطلسي عام 1949 هو مواجهة الخطر السوفياتي، بعد أن أصبح العالم يعيش مرحلة الحرب الباردة التي جاءت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، تلك الحرب التي عزّزت من قوة الولايات المتحدة الأميركية، عبر دخولها المتأخر في الحرب، واستخدامها أقسى أنواع الأسلحة المحرّمة دولياً (السلاح النووي) ضد اليابان، لترسّخ في ذهن العالم درساً لا يمكن أن ينساه، وهو أن الولايات المتحدة الأميركية لن تتردد في ارتكاب أقسى الجرائم والفظائع حفاظاً على وجودها وهيمنتها، ولأنها تعتبر أن باقي شعوب العالم أقل مستوى منها ومن الشعوب الغربية، فقد اختارت اليابان (الآسيوية) مسرحاً لتلك الجريمة، مخلّفة أجيالاً مشوّهة من اليابانيين، بقوا شهوداً على “عظمة الديمقراطية الأميركية وشعارات حقوق الإنسان”.
ثم انتقلت بعد ذلك إلى توجيه الضربة القاضية لبريطانيا العظمى، التي كانت نهايتها الفعلية في العام 1956 بعد فشل العدوان الثلاثي على مصر وخسارتها لقناة السويس. من هنا بدأت الولايات المتحدة تدرك أهمية الممرات والمضائق الدولية في تكريس السيطرة على طرق التجارة الدولية، وبالتالي التحكّم في طرق إمداد النفط، والقدرة على منعه عن أعدائها إن اقتضت الضرورة ذلك.
وفي العام 1973، تلقّت الولايات المتحدة درساً لن تنساه، لكنها استثمرته وعملت على منع تكراره، ألا وهو وقف المملكة العربية السعودية لتصدير النفط بعد حرب تشرين، لكنها لم تغفر للملك فيصل فعلته تلك، وتمّ التخلص منه، رغم موافقته على سياسة “البترودولار” التي زادت من الطلب على الدولار الأميركي، وحرّرت الولايات المتحدة من نظام بروتون وودز الذي كان قائماً على ربط الدولار بالذهب، وبالتالي ازداد الطلب على الدولار وتعزّزت قيمته، وخاصة بعد موافقة دول أوبك على ذلك في العام 1974.
لقد كان الدرس الذي تريد الولايات المتحدة الأميركية تكريسه في ذهن الحكام العرب هو أنه: لا يمكن التهاون مع من يهدّد إمدادات الطاقة التي تشكل عصب الحياة للولايات المتحدة، كما أن الولايات المتحدة لن تسمح بعد اليوم بتكرار ما حدث.
إذا كان ارتفاع أسعار الطاقة أعلى من تكاليف الحرب للسيطرة عليها… فلن تتردد الولايات المتحدة في خوض تلك الحرب والاستيلاء على مصادر الطاقة بالقوة
شهد العالم هزات كبيرة أدت إلى ارتفاع أسعار الطاقة بشكل كبير، وهو ما يعني من حيث المبدأ فرصة كبيرة بالنسبة إلى الدول المصدّرة للنفط والغاز. لكن الذي يحدث كان مختلفاً تماماً، حيث كانت تلك الدول تسارع إلى زيادة الإنتاج لتخفيض الأسعار، وهو بلا شك سلوك يتعارض مع مصلحتها القومية، لكنه سلوك نابع من إدراكها لطبيعة العلاقات الثنائية القائمة بينها وبين الولايات المتحدة، والقائمة على منطق الإذلال والابتزاز، والذي ساد لسنوات طويلة، وقد كان مغلّفاً بغلاف دبلوماسي أحياناً، لكنه كان جليّاً وواضحاً أحياناً أخرى، كما حدث في عهد إدارة الرئيس ترامب الذي أظهر للملأ كيفية التعاطي الأميركي مع بعض الدول التي تربطها بالولايات المتحدة الأميركية “تحالفات استراتيجية”.
واليوم، وفي ظل انعكاسات الحرب الأوكرانية، وتراجع إمدادات الطاقة الروسية إلى الغرب، بدأت الدول الغربية تتململ في ظل ما تعانيه من تضخّم كبير انعكس على مستوى معيشة مواطنيها، نتيجة لحرب ليست حربهم. فأوروبا كلها متضررة، وهم يدركون ذلك، ومشاكلهم ستتفاقم كثيراً مع اقتراب فصل الشتاء حيث سيزداد الطلب على الطاقة بشكل كبير. فبداية الحرب بدت كأنها “حرب عضّ أصابع” بين روسيا والغرب، فالكل متضرر، لكن موسكو وجدت بعض البدائل، وخاصة في السوق الصينية القادرة على استيعاب قسط كبير من النفط والغاز الروسيين. وبقي القلق مسيطراً على الدول العربية المنتجة للطاقة، فهل يجب عليها الامتثال للإرادة الأميركية والغربية بزيادة الإنتاج والتخلّي عن مكاسب اقتصادية كبيرة وفرصة لن تتكرر؛ فارتفاع أسعار الطاقة عوّض تلك الدول عن الخسائر التي تكبّدتها نتيجة لتفشّي وباء كوفيد ــ 19، وأعطتها بارقة أمل في تحقيق قفزة تنموية وشيكة، وتجاوز حالة الركود الاقتصادي.
إن تخفيض أسعار الطاقة من قبل الدول العربية المصدّرة لها لن يتحقق من دون ضغط سياسي أميركي غربي على تلك الدول، أو استخدام “الفزاعة الإيرانية” بشكل أكبر لفتح الباب أمام المساومات وطلب الحماية، أو على الأقل عدم المضيّ في توقيع الاتفاق النووي مع إيران، أو رفع حرس الثورة الإيراني من لائحة الإرهاب الأميركية… إلخ. من هنا بدأنا نشهد حراكاً سياسياً في الشرق الأوسط، قوامه الحيرة والتخبّط، والتغيّر في الصداقات، وتلاشي العداوات وضياع البوصلة لا أكثر..
الناتو العربي والهدف منه
على الرغم من أن فكرة الناتو فكرة سيّئة الصيت، على الأقل بالنسبة إلى دولنا وشعوبها، كما أن اسم هذا الحلف (الناتو) اقترن بالقتل والاحتلال ونهب خيرات الشعوب، ومنها دولنا العربية، فإن بعض الدول العربية أراد استنساخ الفكرة عبر تأسيس ما سُمّي في بداية الأمر” الناتو العربي”.
والناتو العربي مصطلح إعلامي أُطلق على مشروع “تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي” (MESA) الذي طُرح في عهد الرئيس باراك أوباما، ثم أُعيد طرحه في عهد الرئيس ترامب. وهو مشروع أميركي يضم دول الخليج العربي الست، إضافة إلى الأردن ومصر. فهو فكرة أميركية هدفها حماية المصالح الأميركية في المنطقة بالاعتماد على هذه الدول، ثم سُمّي “الناتو السنّي” الذي بدا جليّاً أن هدفه المعلن سيكون العداء لإيران و”الحدّ من نفوذها في المنطقة العربية”، إضافة إلى مكافحة الإرهاب.
الصعوبات التي يواجهها التحالف (الناتو العربي)
على الرغم من الخطابات الحماسية، والتصريحات الإعلامية، فإن هذا التحالف كان يعاني من عدد من الصعوبات، أهمها:
- حالة الانقسام بين دول الخليج تجاه الموقف من إيران؛ فبينما ترى المملكة العربية السعودية والبحرين والإمارات (آنذاك)، أن إيران عدو ويجب التعامل معه بقوة وحزم، رأت كل من قطر وعمان والكويت أن إيران دولة إقليمية يجب العمل معها على حل جميع المشاكل بالطرق السلمية والحوار.
– كان هناك علاقات سيّئة بين قطر ومصر على خلفية دعم قطر للإخوان المسلمين بزعامة محمد مرسي، وعدم ترحيبهم بوصول الرئيس السيسي إلى السلطة الذي تعتبره قطر انقلاباً على الشرعية.
– كان هناك فتور في العلاقات بين الأردن والمملكة العربية السعودية، وصل إلى حدّ الاتهام الضمنيّ للمملكة بمحاولة تغيير نظام الحكم في الأردن تنفيذاً لصفقة القرن.
– المنافسة على قيادة الحلف بين كل من المملكة العربية السعودية والقاهرة، حيث ترى القاهرة أن لها الأحقيّة في ذلك، بينما ترى المملكة أنها هي من سيموّل هذا المشروع، وبالتالي هي الأَوْلى بقيادة هذا التحالف.
– في العام 2015 طرحت القاهرة مشروع إنشاء قوة عربية لحماية المنطقة، وتقدمت به إلى جامعة الدول العربية، لكنه لم يلقَ تأييداً من المملكة العربية السعودية، لذا فقد قررت القاهرة آنذاك عدم الاندفاع وراء مشروع الناتو العربي.
– ازدادت الحماسة السعودية لتأسيس الناتو العربي بعد الاعتداءات التي تعرضت لها شركة أرامكو في العام 2019 بواسطة عدد من الطائرات المسيّرة، حيث جرى اتهام إيران وقتها. لذا فقد دعت المملكة إلى عدة اجتماعات في محاولة للتصدّي لذلك، تحت شعار تعزيز مكافحة الإرهاب في المنطقة، لكن ذلك لم يحقق أيّ نتائج ملموسة.
من “الناتو العربي”… إلى “الناتو الشرق أوسطي”
بداية، ومن الاسم، يبدو جلياً أن “إسرائيل” ستكون حاضرة ومشاركة في هذا التحالف، وإن لم تكن هي القائد لهذا التحالف حين تبلوره، فمن دون شك ستكون هي الموجّه لقراراته. وفكرة “الناتو الشرق أوسطي” تعيدنا إلى مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي طرحه شيمون بيريز في العام 1992، والذي طرح فيه معادلته الشهيرة: النفط العربي + اليد العاملة العربية = الخبرة الإسرائيلية، ادّعاءً منه بما يتمتع به الصهاينة من خبرة وتفوق على العنصر العربي. وطرح حينذاك فكرة تأسيس “جامعة الشرق الأوسط” كبديل من الجامعة العربية، حيث ستكون “إسرائيل” عضوة فيها، وحيث ستبدو عضوة غريبة (غير عربية)، فيما لو بقي اسمها الجامعة العربية.
واليوم، فإن فكرة تغيير اسم الحلف من “الناتو العربي” إلى “الناتو الشرق أوسطي” ليس لها سوى معنى واحد، وهو وجود “إسرائيل” ضمن هذا الحلف على الأقل، أو ربما هي من سيتولّى قيادته الفعلية، حتى لو كانت القيادة الشكلية موكلة إلى إحدى الدول العربية الداخلة فيه. وبالتالي، لم يعد الحلف موجّهاً ضد إيران فقط، كما كان في “الناتو العربي” أو الناتو السنّي، بل أصبح موجّهاً ضدّ أيّ دولة عربية يمكن أن تعادي “إسرائيل” أو تتحالف مع إيران. ثم كيف يمكن الحديث عن أن هدف الحلف هو تحقيق السلام والاستقرار، وهو يضم الكيان الصهيوني الذي هدّد الأمن والاستقرار في المنطقة طوال العقود الماضية !
ماهي المكاسب المتوقعة لدول الحلف
ليس خفيّاً على أحد حجم المخاطر والتهديدات التي تتعرّض لها دول المنطقة؛ فالمملكة العربية السعودية عانت من عزلة سياسية استمرت عدة سنوات بسبب قانون “جاستا” وقضية الخاشقجي، هذه القضية التي أثبتت للعالم كله أن كل المناداة بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان ليست سوى شعارات تخفي وراءها رغبة في توظيفها للابتزاز السياسي، وهو ما رأيناه من خلال زيارة الرئيس التركي إردوغان للمملكة العربية السعودية، بعد أن قام القضاء التركي بإغلاق ملف التحقيق ونقله إلى المملكة. وكذلك إعلان البيت الأبيض عن زيارة مرتقبة للرئيس بايدن للمنطقة، سيلتقي خلالها وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، في رسالة علنية للعالم تتعلق بإغلاق ملف الخاشقجي إلى الأبد. كذلك فالمملكة العربية السعودية تحتاج إلى موافقة أميركية ودولية على نقل السلطة إلى وليّ العهد في حال وفاة الملك سلمان الذي يعاني من وضع صحيّ صعب، وهناك رغبة سعودية في وضع نهاية لحرب اليمن وتصفير مشاكلها مع دول الجوار، ومن هنا ربما جاءت الجولة التي قام بها وليّ العهد السعودي في كل من مصر والأردن وتركيا، والتي استُقبل فيها استقبال الملوك.
أما مصر فلديها أزمة اقتصادية تفاقمت بعد الحرب الأوكرانية، لذا فقد حصلت على مساعدات سعودية قطرية كبيرة، ستسهم في بث الحركة والحياة في الاقتصاد المصري، وتخفف من السخط الشعبي على ارتفاع الأسعار وتفاقم مشكلة البطالة، وخاصة أن هناك الملايين من المصريين يعملون في دول الخليج، وعلى الأخص في قطر والسعودية. أما الأردن فليس خافياً على أحد حجم المخاوف الداخلية والتحديات الخارجية التي تتعرض لها المملكة، والمخاوف الكبيرة من أن يكون حل القضية الفلسطينية وفقاً لصفقة القرن على حساب الأردن، كما أن هناك أطرافاً خارجيين ربما يحاولون تفعيل الخلاف بين الملك ووليّ عهده السابق الأمير حمزة. أما قطر وباقي الدول الخليجية، فإنها تريد ضمان الاستقرار في المنطقة ليتسنّى لها قطف ثمار ارتفاع أسعار الطاقة في العالم. وكذلك الولايات المتحدة الأميركية تسعى للتوصل إلى اتفاق مع إيران بشأن برنامجها النووي، لأنها تريد تأمين النفط من منطقة الخليج كبديل من النفط الروسي وضمان وصوله إلى أوروبا قبل فصل الشتاء، لذلك هي تسعى الآن إلى ترسيخ الهدوء في المنطقة والابتعاد عن الحروب، إدراكاً منها أن أي عمل عسكري ضدها سيوقف إمدادات النفط والغاز من الخليج العربي، وهذا سيكون لمصلحة روسيا. هذه الحاجة الأميركية تدركها إيران جيداً، لذلك عملت على التشدّد في المفاوضات الأخيرة، ورفعت السقف قليلاً، وخاصة أن الوقت يسير في مصلحة تنفيذ برنامجها النووي، حيث يشير بعض التقارير الإسرائيلية والغربية إلى أن أسابيع فقط وستصبح إيران قادرة على إنتاج السلاح النووي، وهو ما سيغيّر توازنات القوى في المنطقة.
ومنذ أيام، وبعد موافقة تركيا على انضمام كل من فنلندا والسويد إلى حلف الناتو، بدا واضحاً أن أنقرة قد حسمت أمرها وقرّرت المضي قدماً في تنفيذ توجّهات حلف الناتو العدائية، والتي هي عضوة فيه منذ العام 1952، لكنها تعرف جيداً أنه رغم كل محاولاتها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فشلت في تحقيق ذلك. لكنها الآن ستحاول استثمار تأييد الناتو لها لتنفيذ مخططها في الشمال السوري، لكن ذلك لن يمر؛ فحلفاء سوريا، وعلى رأسهم روسيا وإيران، يرفضون ذلك ويؤيدون سوريا في حقّها في الدفاع عن وحدة أراضيها وسلامتها، كما أن الموقف العربي يتطور تجاه سوريا، ولا شك في أن هذه الدول العربية ترفض المساس بوحدة الأراضي السورية وسلامتها.
ويبقى المشهد السياسي في المنطقة في غاية التعقيد، فلا صداقات ثابتة، ولا عداوات مستمرة، وتبقى المصلحة هي المحدّد الأول لتوجهات الدول بعيداً عن أي اعتبارات أخرى، وتنازع المصالح هو الذي يرسم ملامح النظام الدولي المقبل، ولا سيما بعد توسيع استراتيجية الناتو للمرة الأولى لتشمل الصين التي ما زالت تحاول الابتعاد عن أي مواجهة متوقعة مع الولايات المتحدة والغرب عموماً، لأنها تعتقد أن أي تأجيل في تلك المواجهة يخدم مصلحتها وتوجهاتها، وخاصة بعد نشوب الحرب في أوكرانيا والاستثمار الصيني الإيجابي فيها. وأي توتر محتمل في منطقة الخليج سينعكس إيجاباً على روسيا والصين، وستكون له ارتدادات سلبية كبيرة على المحور الأميركي الأوروبي، وعلى دول منطقة الشرق الأوسط عموماً، والدول المصدّرة للطاقة على وجه الخصوص.