من الصين عن الأزمة الكورية: استماتة لإبقاء الكرة الأرضية في مكانها
موقع العهد الإخباري ـ
محمود ريا:
يبدو الحديث عن الأزمة في شبه الجزيرة الكورية في شوارع بكين كالحديث عن أحداث تدور في قارة أخرى، أو لنقل في كوكب آخر، فالموضوع بعيد عن اهتمامات المواطن اليومية، ولا يدخل في إطار تفكيره المتوزع على قضايا تخصه بشكل مباشر، وفي إطار مدينته، قبل أن يكون في إطار المقاطعة أو الدولة التي يعيش فيها.
والقادم من أقصى أطراف الأرض يتوقع أن يكون ضجيج التجارب النووية والمناورات الحربية مسموعاً بشكل كبير، إن لم يكن منعكساً على الحركة في هذه المدينة الكبرى التي لا تهدأ، نظراً لقرب المسافة من شبه جزيرة كوريا، وللدور الذي تلعبه الصين في الأزمة هناك. إلا أن كل هذه التوقعات تصطدم بالوقائع على الأرض: لا أثر لما يحدث في كوريا لدى المواطن العادي، والحياة تسير في بكين وغيرها من المدن الصينية بشكل عادي تماماً، فلا قلق من الأخطار المتوقعة، ولا حسابات لما يمكن أن يحصل في تلك المنطقة من العالم.
وإذا كان الوضع هو على هذه الحال في الشارع، فإنه ليس كذلك حتماً لدى القيادة الصينية التي تعيش تفاصيل ما يحصل على أطراف البلاد لحظة بلحظة: تتابع، تحلل، تقترح، وتحضّر لمواجهة كل الاحتمالات.
لدى القيادة الصينية كل الأسباب كي تقلق من الوضع المتوتر على امتداد منطقة شرق آسيا، فشبه الجزيرة الكورية يقع في الدائرة الاستراتيجية الأولى للاهتمام الصيني، وتأثير الأحداث فيها على الأمن القومي الصيني هو راهن وحيوي وداهم بالنسبة للقيادة الصينية، كما أن بكين مطالبة بالتفاعل مع هذه الأحداث، وباتخاذ مواقف فورية وواضحة إزاء ما يطرأ، ولذلك تحلّ هذه الأزمة كضيف يومي في تصريحات المسؤولين الصينيين، ولا سيما المعنيين بموضوع العلاقات الخارجية.
الأزمة في شرق آسيا تتجه كل يوم إلى مزيد من التصعيد، ومن الصواريخ إلى القنابل النووية والهيدروجينية، إلى المناورات والطائرات الحربية، إلى التهديدات المباشرة للمسؤولين، تتصاعد اللهجة والتحركات، وكل هذا يزرع المزيد من القلق لدى المسؤولين الصينيين، خوفاً من انفلات زمام الأمور من يد المهدِّدين المهدَّدين، ما يؤدي إلى دخول المنطقة في أتون حرب لا قِبل لأحد بها.
ومن أجل ذلك يعود المسؤولون الصينيون كل مرة للدعوة إلى اعتماد الاستراتيجيات التي اقترحتها بكين لحل الأزمة في كوريا، أو على الأقل لخفض مستوى التصعيد، بما يسمح بالبدء في مفاوضات تؤدي إلى التوصل إلى حل يُرضي جميع الأطراف.
وتقدم الصين مسارين متوازيين للبدء في مسيرة الحل المطلوبة للأزمة الكورية:
ـ المسار الأول يطلق عليه الصينيون اسم “التعليق مقابل التعليق” الذي يتطلب من كوريا الديمقراطية (الشمالية) أن تعلق أنشطتها الصاروخية والنووية مقابل تعليق التدريبات العسكرية واسعة النطاق بين الولايات المتحدة وجمهورية كوريا (الجنوبية).
ـ المسار الثاني هو المسار المزدوج لنزع السلاح النووي في شبه الجزيرة الكورية من ناحية وتأسيس آلية سلام من الناحية الأخرى.
وبالرغم من أن هذين الطرحين يتلاءمان مع الحاجات الأمنية لكل الأطراف، ويصلان بالمنطقة إلى الأمان والسلام، فإن النوايا المسبقة والشكوك المتبادلة هي التي تتحكم الآن بمسار الأمور، بما يجعل إمكانية نجاح الطروحات العقلانية متدنية جداً، مقابل استحالة الحلول العسكرية، إلا إذا كانت درجة الجنون لدى البعض قد وصلت إلى مستوى لا رجعة منه إلا بتدمير المنطقة، وربما الكرة الأرضية ككل.
وهذا الاحتمال الرهيب هو الذي يقلق القيادة الصينية، وهي التي تسير في طريق التنمية، وتضع خططاً طموحة لخمسين سنة مقبلة، فإذا بها ترى شبح الحرب يخيّم على مقربة من الحدود الصينية، بما يترك انعكاسات خطيرة ومدمرة على الصين نفسها، فضلاً عن محيطها.
وبكين التي تدين بشكل دائم التجارب النووية لكوريا الديموقراطية، وتشارك بفعالية ـ في الفترة الأخيرة ـ في العقوبات الدولية المفروضة عليها، لا تقوم بذلك انطلاقاً من حبها للولايات المتحدة ودعماً لمنهجها في التعاطي مع الأزمة الكورية، فالقيادة الصينية موقنة بأن جزءاً كبيراً من التصعيد الأميركي تجاه كوريا الشمالية لا يستهدف بيونغيانغ، وإنما هدفه هو التأثير بشكل سلبي على الدور الصيني في المنطقة والعالم، وربما يكون هذا التصعيد مقدمة لاستهداف الصين نفسها.
إن ما تقوم به القيادة الصينية من ضغط سياسي واقتصادي على كوريا الديموقراطية يهدف بشكل أساسي إلى لجم الخطوات التصعيدية من بيونغيانغ، والتي تستجلب ـ برأي بكين ـ خطوات تصعيدية أكبر من واشنطن. ومن خطوة إلى خطوة، تجد المنطقة نفسها في مواجهة مسار عنفي لا يستطيع أحد السيطرة عليه.
والهدف الصيني الآخر من تشديد الضغط على بيونغيانغ هو الخروج من دائرة الضغط الأميركي القاسي على بكين، واتهامها بأنها هي التي تحمي نظام كوريا الشمالية وتمنعه من السقوط وتؤمن له شريان الحياة الذي يبقيه صامداً في وجه ضغوط الولايات المتحدة وحلفائها في شرق آسيا.
وبالرغم من أن بكين تحاول من خلال ضغوطها على بيونغيانغ الالتفاف على هذا الاتهام، إلا أنها ليست بريئة منه تماماً، فالصين هي التي تساعد فعلاً الحكم في كوريا الشمالية على الصمود والبقاء، لا بل هي التي تمنع أي محاولة لإسقاطه، لأن هذا الحكم يشكل خط الدفاع الأخير الذي يمنع زحف الإمبريالية الأميركية إلى البر الآسيوي من الشرق، وهو زحف يشكل تهديداً استراتيجياً، لا بل وجودياً، للأمن القومي الصيني.
وفي ظل هذا الواقع المعقّد والمتوتر، يبقى الأمل لدى القياديين الصينيين بصحوة ضمير لدى المعنيين بالقضية الكورية، لا بل باستفاقة من سكرة القوة وشهوة الدم، وإدراك حقيقة الأمور على الأرض، وعدم الانجرار وراء غريزة السيطرة والتملك، التي تقابلها غريزة السعي إلى البقاء بكل السبل المتاحة، كي تبقى الكرة الأرضية في مكانها، ويبقى على سطحها من يمكنه العيش بأمن وسلام.