من “الربيع العربي” إلى ملحمة غزة.. ماذا بعد؟
موقع قناة الميادين-
حسني محلي:
جاء ما يسمّى بـ”الربيع العربي” أواخر 2010 ليؤكد صحة نظرية “الفوضى الخلاقة”، وهذه المرة بدموية أكبر، ولكن عبر الأنظمة العربية والإسلامية التي كانت وما زالت في خدمة واشنطن و”تل أبيب”.
المجازر التي يرتكبها الكيان الصهيوني هي ذات طابع ديني بحت، وتنطلق من نصوص واضحة في التوراة فسّرها العديد من الحاخامات اليهود طوال الأعوام المئة الماضية، واعترف بها نتنياهو أول أمس خلال حديثه عن العمالقة، معتبراً ذلك مبرراً أساسياً لكل ما يقومون به من مجازر دموية بحق الشعب الفلسطيني، منذ وصول المجموعات الصهيونية الأولى إلى فلسطين قبل وعد “بلفور” وبعده، وانسحاب الدولة العثمانية من المنطقة.
والتقت هذه التفسيرات والمبررات في كثير من الأحيان مع مقولات المحافظين الجدد في أميركا وتفسيراتهم، وهم الأكثر تضامناً ودعماً للصهاينة بالمفهومين العقائدي والسياسي، وبالتالي العملي، أي العسكري. فبعد عام من الإعلان عن مشروع الشرق الأوسط الكبير في 9 حزيران/يونيو 2004 وإعلان الرئيس إردوغان، آنذاك، أنه الرئيس المشترك لهذا المشروع، شهدت المنطقة وتركيا، من دون شك، العديد من التطورات المثيرة التي عدّتها وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس في تصريحها لصحيفة “واشنطن بوست” في 4 أيلول/سبتمبر 2005 نتاجاً “لنظرية الفوضى الخلاقة الضرورية للتحوّل الديمقراطي في أي بلد، وبشكل خاص في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”.
وكان احتلال أفغانستان في تشرين الثاني/نوفمبر 2001 والعراق في آذار/مارس 2003 واغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط/ فبراير 2005 بمنزلة التطبيق العملي لنظرية “الفوضى الخلاقة” التي اعتمدتها واشنطن مبدأً أساسياً في تعاملاتها مع دول المنطقة العربية والإسلامية كي تنتقل من كارثة إلى كارثة تمنعها من التفكير بهدوء وعقلانية في ما يجب القيام به من أجل التنمية والتقدم في جميع المجالات بما فيها الديمقراطية الحقيقية، وهي العنصر الأهم لتحقيق هذه التنمية، اجتماعياً وثقافياً، ثم سياسياً واقتصادياً.
وكان العدوان الصهيوني على لبنان في تموز/يوليو 2006 الحلقة الجديدة في مسلسل ” الفوضى الخلاقة ” التي أراد لها الغرب الإمبريالي أن تخلق المزيد من الفوضى أولاً في لبنان ثم سوريا والمنطقة عموماً، لما لهذا البلد العربي الصغير من ثقل ودور مهم جداً بسبب وجود حزب الله هناك، وهو مصدر الرعب الحقيقي بالنسبة إلى الكيان الصهيوني.
ويعرف الجميع أن حسابات الدول الإمبريالية والاستعمارية في مجملها تهدف بالدرجة الأولى إلى خدمة هذا الكيان ما دام أنه يلبي احتياجاتها سياسياً كان أم اقتصادياً والأهم دينياً ونفسياً، وما زالت تفكر بعقلية الصليبيين الذين نسوا جميعاً ودائماً أن من صلب السيد المسيح هم اليهود وليس المسلمين أو العرب أي الكنعانيين.
وجاء ما يسمّى بـ”الربيع العربي” أواخر 2010 ليؤكد صحة نظرية “الفوضى الخلاقة”، وهذه المرة بدموية أكبر، ولكن عبر الأنظمة العربية والإسلامية التي كانت وما زالت في خدمة واشنطن و”تل أبيب” ومن معهما في الغرب الإمبريالي المتصهين. ويفسر ذلك التنسيق والتعاون والعمل المشترك خلال هذا “الربيع” الذي أراد له الغرب الإمبريالي أن يتحوّل إلى صيف حارق يدمر الأخضر واليابس.
وهو ما تحقق له بدرجات متفاوتة في العراق وسوريا واليمن وليبيا وقليلاً في لبنان ومصر وتونس، وهي جميعاً الدول الأهم سياسياً وجغرافياً وعسكرياً ونفسياً في حسابات الكيان الصهيوني الذي لم يتخل عن نظرية “أرض الميعاد” وسلاحها التطبيقي نظرية “الفوضى الخلاقة” التي تستمد مقولاتها من التوراة والنصوص الدينية ومنها ما جاء في سفر التثنية:
“وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك، فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة غنيمتها فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جداً، التي ليست في مدن هؤلاء الأمم هنا، أما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيباً، فلا تستبقِ منهم نسمة، بل تُحرمها تحريماً: الحثيين، والأموريين، والكنعانيين، والفرزيين، والحويين، واليبوسيين، كما أمرك الرب إلهك”.
ونسبوا إلى النبي حزقيال أيضاً قوله “لا تشفق أعينكم، ولا تعفوا عن الشيخ والشاب والعذراء والطفل والنساء، واقتلوا للهلاك”.
وجاء في سفر يشوع: “وأخذوا المدينة وحرموا كل ما في المدينة – أي: قتلوهم – من رجل وامرأة، من طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف”.
وهذا ما فعله ويفعله الصهاينة منذ أن جاؤوا فلسطين حيث ارتكبوا العشرات من المجازر التي أومروا بها في نصوصهم الدينية التي فسرها حاخاماتهم الإرهابيون كما هي الحال في جرائم غزة الأخيرة، وهي نتاج لسلسلة من التطورات التي عاشتها المنطقة، خاصة خلال الأعوام العشرين الماضية، وبالتحديد اعتباراً من احتلال العراق ومنه خرج النبي إبراهيم وإليه تم سبي اليهود مرتين في عهد الملك الكلداني نبوخذنصر الأولى عام 597 والثانية 587 قبل الميلاد.
ومن دون أن يمنع كل ذلك الصهيونية العالمية من التمسك بالنصوص الدينية وتسخيرها خدمة للمشاريع السياسية المدعومة إمبريالياً، وهو ما ساعدها على تحقيق الكثير من الانتصارات وسببها الرئيسي هو دعم الغرب الصليبي وتواطؤ الأنظمة العربية والإسلامية ومنظماتها المختلفة التي كانت وما زالت في خدمة العدو الصهيوني، كما هي الحال في ما يسمّى بـ”الاتفاقيات الإبراهيمية”، وما لحق بها من مؤامرات عربية وإقليمية تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية أولاً، وبالتالي محاصرة قوى المقاومة والممانعة ومحاربتها والتخلص منها، والتي لولاها لكانت الآن المنطقة برمتها عبيداً لليهود، يفعلون بهم ما يشاؤون وفق نصوصهم الدينية التي تقول لهم “إنكم شعب الله المختار وما عداكم فهم حيوانات في صور آدمية، خُلقوا لخدمتِكم، ووُجدوا ليكونوا عبيداً لكم، لا إنسانية فيهم، ولا حرمة لهم، ولا قيمة لأرواحهم ولا لدمائهم، ولا لأعراضهم وأموالهم”.
وهذه هي حال السلاطين والملوك والأمراء والمشايخ وأمثالهم مهما كانت تسمياتهم، والذين اجتمعوا معاً لتدمير المنطقة، وفق النصوص الدينية اليهودية، وكان الإسلام السياسي المتصهين في خدمتها دائماً كما هي الحال في سوريا والعراق واليمن ومصر وليبيا عندما خدم إرهابيو “داعش” و”النصرة” و”القاعدة” وأمثالها مشاريع الدول الإمبريالية والصهيونية وعميلاتها ومخططاتها عبر تدمير سوريا والعراق وليبيا واليمن، وهي خط الدفاع الأول عن قضية الشعب الفلسطيني ببُعديْها الوطني والقومي فدفعت الثمن غالياً من أجل ذلك.
ومن دون أن يخطر على بال هذه الدول وقواها الخارجية وعملائها في المنطقة من الذين يتحدثون عن “رديكالية” حماس “السنية” وتارة أخرى حزب الله “الشيعي” أنها هي التي خلفت “القاعدة” و”طالبان” و”داعش” و”النصرة” ومثيلاتها بالتسويات المختلفة، وسخرتها خدمة للمشاريع الاستعمارية، وهدفها الأول والأخير تدمير نفسية الإنسان العربي والمسلم، وتحطيم كل قيمه الدينية والوطنية وأهمها الكرامة والشرف والإباء والصمود والنضال من أجل الحق الذي باعته الأنظمة العميلة المتواطئة ناسية قوله تعالى “لقد جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً”.
وهذا ما نراه الآن في ملحمة غزة، رغم كل المتآمرين على شعبها من العرب و”الإسلاميين”، وسوف ينتقم منهم جميعاً أطفال غزة الذين سيولدون هذا الشهر فقط وعددهم 5500 طفل، وفق إحصائيات وزارة الصحة الفلسطينية. هذا من دون أن نتجاهل أطفال وأبطال الضفة والشتات الفلسطيني، وكل من يحلم بفلسطين حرة أبية كريمة على كامل التراب الفلسطيني وعاصمته القدس الشريف، رغم أنف العملاء والخونة والمتآمرين، ومهما طال الزمن.