من أوكرانيا إلى غزة.. سقط ما تبقى من أقنعة
صحيفة الوطن السورية-
محمد نادر العمري:
بات واضحاً أن معالم ومحددات المواقف الدولية، من طبيعة الأزمات والصراعات المتنامية، مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأهداف الجيوإستراتيجية للكثير من هذه الدول ولاسيما الدول الكبرى، التي باتت تتسم مواقفها بالتناقض مع كل صراع أو أزمة سواء كان ذلك متعلقاً بازدواجية المعايير بالتعامل مع أطراف الصراع أم في الوسائل المقترحة لحل هذه الصراعات أو من حيث توظيف المنظمات الدولية في إدارة هذه الأزمات.
هذا التناقض الواضح في سلوك ومواقف وتوجهات الدول يمكن استنتاجه بشكل بسيط جداً بعد دخول الأزمة الأوكرانية عامها الثالث واقتراب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة من شهره الخامس، إذ إن اتباع منهج المقارنة الذي يعد من أكثر المناهج استخداماً في مجال العلوم السياسية بين الصراعين، يجعلنا أمام مروحة من المؤشرات التي تؤكد هذا التناقض:
أولاً- في الأزمة الأوكرانية سعت الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية لإغلاق كل المسارات السياسية والدبلوماسية أمام روسيا الاتحادية بشكل هدد أمنها القومي ودفعها لاتخاذ قرار إستراتيجي يتعلق باللجوء للخيار العسكري لوقف تمدد النفوذ الأطلسي الذي بات يشكل طوقاً حولها ويجعلها بين خيارين أحلاهما مر، إما القبول بالأمر الواقع ووقوعها تحت «سياسة احتواء» جديدة أو استخدام القوة العسكرية لكسر هذه التوجه، على حين أن هذه الدول ذاتها دعمت التوجه الإسرائيلي قبل بدء عملية طوفان الأقصى لفرض الحصار على قطاع غزة وتقسيم الضفة وإحكام سيطرتها عليها في إطار توزيع المستوطنات في ظل سكوت تام من المجتمع الدولي عن كل جرائم قوات الاحتلال.
ثانياً- في الوقت الذي عدت به الدول الغربية العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا بأنه اعتداء على سيادة دولة أخرى وانتهاك للقانون الدولي، ممارسة ضدها كل أشكال الضغط والحصار لوقف عملياتها العسكرية لحماية أمنها القومي، دعمت هذه الدول ذاتها العمليات العدوانية لقوات الاحتلال الإسرائيلي معتبرة أن عدوانها على قطاع غزة هو حق طبيعي لإسرائيل لحماية أمنها بعد عملية طوفان الأقصى.
ثالثاً- دعمت الدول الغربية الجيش الأوكراني والمجموعات النازية المرتبطة به كمجموعة «الآزوف» العنصرية لوقف تمدد الجيش الروسي ومنحها أسلحة نوعية لتحقيق ذلك، في الوقت الذي وجهت هذه الدول اتهامات متعددة لأطراف محور المقاومة بدعم الفصائل الفلسطينية المقاومة معتبرة أنها سبب اندلاع الصراع في غزة، بمعنى آخر فإن تناقض المواقف الدولية هنا برز من خلال مقاربة تتمثل بمنح الدول الغربية لنفسها الحق في تزويد مجموعات متطرفة أوكرانية بالأسلحة على حين أنها جرمت منح الفصائل المقاومة أي شكل من أشكال الدعم حتى المعنوية منها.
رابعاً- مارس الغرب ازدواجية المعايير من حيث التناقض في المواقف المتعلقة بالجوانب الإنسانية، إذ سارعت عواصم هذه الدول لاتهام القوات الروسية بارتكاب مجازر جماعية واستهداف المدنيين والبنى التحتية في المدن الأوكرانية دون تقديم أدلة دامغة تؤكد هذا الاستهداف الذي كان يركز على تموضع قوات «آزوف»، على حين أن هذه الدول ولاسيما الولايات المتحدة الأميركية رغم كل المجازر التي ارتكبتها قوات الاحتلال ومطالبة مسؤوليه بممارسة كل أشكال الإبادة وقيام جنوده بنشر مقاطع يتفاخرون بها بتفجير أبنية ومساكن وقتل واعتقال، إلا أن هذه الدول حتى اليوم لا ترى في ذلك جرائم حرب تنتهك من خلالها الإنسانية على الرغم من أنها موثقة بصور وتسجيلات واعترافات ومقاطع فيديو.
كما أن هذا الجانب الإنساني أبرز تناقضاً في المواقف بين الأزمتين الأوكرانية والفلسطينية، وهذا التناقض ظهر من خلال الضغوط التي مارستها الدول على المنظمات الدولية والدول على حد سواء لتقديم كل المساعدات الإنسانية والإغاثية والمالية للأوكرانيين، على حين أنها أذعنت للسردية الإسرائيلية وتوجهاتها في ممارسة الحصار المحكم حتى وصل لحد تعرض أهالي غزة لخطر انتشار المجاعة ومارست واشنطن ضغوطاً على الدول العربية والإسلامية لعدم اتخاذ أي إجراء حقيقي لكسر الحصار المفروض على القطاع.
خامساً- فيما يتعلق بآليات الحل فإن موقف الغرب من الأزمة الأوكرانية تمثل بمطالبة روسيا الانسحاب من أوكرانيا والدخول في مباحثات سياسية دون أي شرط، على حين أن موقفها فيما يتعلق بآلية الحل لوقف عدوان غزة يتمثل بضمان أمن إسرائيل سواء كان ذلك بنزع سلاح المقاومة الفلسطينية أم منح إسرائيل اليد العليا للتحكم في الوضع الأمني بقطاع غزة والضفة الغربية.
سادساً- اتسم موقف الكثير من الدول الغربية بممارسة الضغط على الدول والمنظمات لقطع علاقاتها مع روسيا، حتى أن هذه الدول نجحت في استصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من المحكمة الجنائية الدولية بدعوى مسؤوليته عن جرائم حرب، على حين أن هذه الدول مارست ضغوطاً على محكمة العدل الدولية لعدم اتخاذ قرار تلزم به إسرائيل بوقف عدوانها على قطاع غزة رغم إدانتها بالجرائم المرتكبة من هذا الكيان بعد الدعوة التي قدمتها جنوب إفريقيا.
هذه المؤشرات وغيرها الناجمة عن مقارنة الموقف المتناقض للدول الغربية في تعاطيها مع الأزمات والصراعات وطبيعتها تبعاً للأهداف الموجهة لسلوكها تجعلنا أمام ثلاث حقائق لا يمكن لأي باحث أو دارس للعلاقات الدولية أن يتجاهلها، وهذه الحقائق تتمثل في:
1. أن الدول الغربية ولاسيما الولايات المتحدة الأميركية في كثير من الأحيان إن لم تكن سبباً رئيسياً في افتعال ونشوب الأزمات والصراعات لتوسيع نفوذها وتحقيق مصالحها، فإنها غالباً ما تقوم بما يسمى في علم الأزمات بدور «الإدارة بالأزمة» أي تشعيب هذه الصراعات والأزمات بما يتيح لها التدخل والتأثير عبر وسائل مختلفة لمصلحة مواقف أطراف مختلفة لتحقيق أهداف جيوإستراتيجية تضمن هيمنتها على النظام الدولي، لذلك حرصت الإدارات الأميركية المتعاقبة، على سبيل المثال لا الحصر، على عدم التفريق بين الإرهاب والمقاومة، وبين حق الشعوب في تقرير المصير والتدخل وغير ذلك من شعارات باتت تشكل وسيلة فعالة لإدارة هذه الصراعات.
2. إخفاق المجتمع الدولي ومنظماته بتطبيق مبادئ القانون الدولي ومبادئه التي نصت على حل الأزمات والصراعات بالطرق والوسائل السياسية، وهو ما يعني أن تشكيل هذه المنظمات التي تعد وريثة منظمات حقبة ما بين الحربين العالميتين، لم تكن أفضل من سابقاتها، وإن تمتعت بعضوية أكثر وإمكانات أكبر واتسعت اختصاصاتها، إلا أنها كانت انعكاساً لتقاسم النفوذ الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية وهو ما جعل ما يسمى آليات الأمن الجماعي والتعاون الدولي وتكريس الاستقرار مجرد شعارات لا تستند لأي وسائل فاعلة لتطبيقها إلى جانب غياب الإرادة السياسية الجامعة.
3. صحيح أن النظام الدولي يشهد حالة من الفوضى نتيجة اتساع دائرة الصراعات التي نجحت الدول الغربية من تهيئة الأجواء لنضوجها وإدارتها، إلا أنها قد تؤسس لشكل جديد لهذا النظام الذي يحتاج لمقومات ولادته متمثلة في عوامل عدة أهمها: عدم الخضوع لإملاءات الغرب وأساليبه ومحددات سلوكيات مواقفه المتناقضة وفقاً لمصالحه، والدفاع عن الحقوق عبر التمسك بخيار المقاومة لاستعادة ما أخذ بالقوة، وهو ما عكسته كل من أزمتي أوكرانيا وغزة اللتين أسقطتا ما تبقى من أقنعة واهية لتظهر صورة الغرب الحقيقية.