منظومة الحرب على فلسطين واليمن.. لماذا تعترضون؟
موقع قناة الميادين-
محمد جرادات:
من أجل الإجابة عن هذا السؤال، يجب استحضار منظومة الحرب على اليمن منذ سبعة أعوام، وتلك التي تحاصر غزة منذ ستة عشر عاماً.
كلنا يعلم بأن هاتين المنظومتين متصلتان جوهرياً، على نحو يجعل انعدام التضامن بين غزة واليمن يعكس خللاً جوهرياً، وخصوصاً إذا علمنا بأن اليمن، في مناطق سيطرة حركة “أنصار الله”، ظلّ طوال الوقت يتظاهر ويتضامن مع غزة دونما كلل ولا ملل، ولا حتى طلب المقابل، وهو طلب لو حدث لكان مشروعاً. والعالَم برمته شهد أعظم تظاهرة تضامن مع غزة في العالم، في صنعاء، غداة الحرب الأخيرة على غزة، وهي تظاهرة تتكرر بصورة مليونية في إحياء يوم القدس العالمي، كل عام في صنعاء وكل المدن اليمينة المرتبطة بصنعاء، وهو ما تفتقده جميع مناطق سيطرة التحالف العربي، وحتى تلك التي تخضع لسيطرة حزب الإصلاح الإخواني، والذي يُفترض به أنه يخضع للخلفية الفكرية ذاتها لـ”حماس” التي تسيطر على غزة( 1).
منظومة الحرب على اليمن منظومةٌ أميركية بامتياز، سرّاً وعلناً. فالطرفان الأساسيان للتحالف الذي يقود الحرب على اليمن، أي السعودية والإمارات، يدوران بكل وضوح في الفلك الأميركي. وأغلبية تسليحهما ودعمهما اللوجستي في الحرب هي أميركية صرفة.
ولعلّ التطبيع الإماراتي، المبالَغ فيه مع الكيان العبري، كشف المستور في دور الاحتلال الإسرائيلي في الحرب على اليمن، وخصوصاً في جانب تمكين “إسرائيل” في البحر الأحمر والموانئ المطلة عليه. وما تبجُّح السيّاح الإسرائيليين في رفع العلَم الإسرائيلي فوق هضاب سقطرى اليمنية، المحتلة إماراتياً، وبدء بناء مدرج عسكري إسرائيلي في أرضها، إلاّ دليل صريح على طبيعة منظومة الحرب على اليمن، وطبيعة أهدافها. وهو ما وصل إلى حدّ استقبال الإمارات الرئيسَ الإسرائيلي، والاحتفاء بزيارته على وقع نشيد “هتفيا” الصهيوني(2).
لو نظرنا إلى منظومة الحرب والحصار على غزة منذ عقد ونصف عقد، لرأيناها أميركية بامتياز، من خلال الكيان الإسرائيلي وأدواته وارتباطاته في المنطقة، وكلها تدور في الفلك الأميركي بلا مواربة. وهذا الأمر يعكس حقيقة الصراع في المنطقة، على نحو يمنع تجزئته، وبما يفرض وحدة الجبهات، وليس فقط التظاهر والتضامن، شعبياً أو رسمياً(3).
وحدة منظومتَي الحرب، في هذا الشكل الجوهري الواضح، تطرح سؤالاً ملحاً بشأن عدم وحدة الميدان المضاد لهاتين المنظومتين، وقد تبيّن أنهما منظومة واحدة في جوهرها العلني وجوهرها السري، على نحو لا يختلف فيه اثنان. ولعل الدور الذي يؤدّيه حزب الإصلاح الإخواني، كأداة رئيسة للسعودية في حربها على اليمن، يخلق تناقضاً صارخاً، انطلاقاً من الخلفية المشتركة لكليهما، لكنّ هذا التناقض يزول إذا نظرنا، ولو حتى من دون تأمُّل، إلى مدى تناقضات الفروع الإخوانية، فيما بينها، حتى إنك لا تجدها تتفق على منظومة تحالف أو تناقض، في ظل الشعار الذي تلقّنه هذه الفروع لقواعدها، وهو “أهل مكة أدرى بشعابها”، من أجل تبرير تناقض جوهري عميق كهذا(4).
ففي الوقت الذي ترأّس زعيم إخوان العراق، محسن عبدالحميد، أولَ مجلس للحكم الانتقالي في العراق برعاية المحتل الأميركي المباشِر، كان إخوان الأردن المجاور يهتفون بحياة الزرقاوي، الذي كان ينشر الدمار في شوارع العراق تحت دعوى محاربة الاحتلال!!! وفي الوقت الذي فرح “إخوان” سوريا والعراق بالاغتيال الأميركي للفريق قاسم سليماني، عدّته قيادة “حماس” “شهيد القدس”. يجب أن نذكر أيضاً أن القرضاوي عندما زار السعودية، وأعلن توبته بين يدي مجلس الإفتاء الوهابي، صرّح بأن هذا المجلس كان أكثر بصيرة منه بشأن عقائد الشيعة، على نحو يناقض مواقف المرشد حسن البنا، وغيره من أقطاب الإخوان في العالم(5).
وحينما كانت السعودية تعتقل أعضاء “الإخوان” المقيمين بها وتنكّل بهم، كانت تستقبل قيادة “الإصلاح” الإخواني في فنادقها الفخمة، ولم يكن هؤلاء يجدون حرجاً في ذلك، وهم يقاتلون إخواناً من شعبهم اليمني تحت حماية الطيران السعودي المدعوم أميركياً، حتى وهو يرتكب المجازر بحق اليمنيين العزَّل، جهاراً نهاراً. حتى عندما كانت السعودية تصنّف الإخوان “جماعةً إرهابية”، وكان لها الدور الأول في تصفية حكم الإخوان في مصر بزعامة مرسي، على نحو يُزيل الغشاوة عن خصوصية البُعد الإخواني الممعن في التناقض، إزاء حتمية وحدة التضامن بين غزة واليمن، رسمياً وشعبياً(6).
وحدة منظومتَي الحرب على اليمن وغزة، في ظل تنامي قوة محور المقاومة الممتد من طهران حتى بيروت، وهو محور يزحف نحو وجهة واحدة، ليست مذهبية نحو أذربيجان أو باكستان أو أفغانستان، وهي الدول المجاورة لقلب هذا المحور، وتضم عشرات الملايين من الشيعة، لكنه زحف سياسي أممي نحو رمال المتوسط، على ضفاف القدس المحتلة، بما تمثّله من مكانة في عقيدة الأمة، تلتفّ حولها. وهو الخطر الذي حذّر منه ترامب في سنوات حكمه، حينما أعلن، بإصرار مراراً، أنه لن يسمح لإيران بالوصول إلى مياه المتوسط، حيث الخطر على درة التاج الغربي، “إسرائيل”، في مواجهة جغرافيا العالم الغربي مباشرة(7).
وتأتي الحملة الإعلامية الراهنة، والتي تستهدف حركة “الجهاد الإسلامي”، كونها الجهة التي رعت التظاهر في غزة تضامناً مع اليمن، منسجمةً بصورة طبيعية مع الجهات ذاتها التي تستهدف اليمن وغزة والقضية الفلسطينية، على نحو روتيني. لكنّ حدّية هذه الحملة تصاعدت لتشمل، في أدواتها، إعلاميين وكتّاباً غير محسوبين رسمياً على التحالف السعودي الإماراتي الإسرائيلي، وهم، في أغلبيتهم، مقرَّبون من قطر و”حماس” و”فتح”، كخالد الحروب وياسر أبو هلالة وصبحي أبو كرش وحسن عصفور وأبو السمن، وغيرهم، من جوقة التذرع بالمصلحة الفلسطينية والنأي بالنفس عن الصراعات العربية الداخلية، وهو شعار لطالما رفعه هؤلاء، أو أغلبيتهم، في الدفاع عن التطبيع التركي مع العدو الإسرائيلي، باعتبار أن إردوغان يسعى لمصلحة شعبه، وهي المصلحة التي جعلته يخاصم جلَّ جيرانه، ويحافظ على ثبات العلاقة الاستراتيجية بـ”إسرائيل”، التي قتلت أبناء شعبه المدنيين في بحر غزة بدم بارد وتغطية إعلامية مذلة(8).
هل، فعلاً، تضرَّرت المصلحة الفلسطينية أو اليمنية من تضامن غزة بقيادة “الجهاد” مع اليمن، أو من تخصيص الإمارات بالقصف في اليوم ذاته الذي زارها هرتسوغ؟
من أجل الإجابة عن السؤال، يجب استحضار الفائدة، التي لازمت غزة طوال السنوات السبع الماضية، في عدم تضامنها مع اليمن على الرغم من تضامن اليمن معها على نحو واسع ودائم، بل منذ حوصرت غزة، قبل ذلك بعقد. هل كانت منظومة الحرب على اليمن تتعاطى مع مظلومية غزة، ولو بصورة نسبية؟ وهل تضرَّرت مصالح اليمن نتيجة طول تضامنها الأصيل مع فلسطين؟
كانت السعودية ومعها الإمارات، وكل ارتباطاتهما في المنطقة، من أكثر المشاركين في الضغط على غزة للتنازل عن مقاومتها وقبول شروط الرباعية الدولية، التي يقف خلفها الأميركي والإسرائيلي، ولم نسمع يوماً بشأن دعم خاص منهما لغزة، ولو كان دعماً إغاثياً تقدِّمه في العادة حتى القوى التي تحاصر بلداً ما، بل كان الإعلام السعودي الإماراتي يبرر لـ”إسرائيل”، طوالَ الوقت، هجومها على غزة وتجويعها لها(9).
إذاً، ما حقيقة الهجوم الإعلامي الراهن على حركة “الجهاد”، وهو الذي يتفاعل الآن بعد الهجوم اليمني على الإمارات للمرة الثالثة خلال شهر؟ وفي ثالثه هذا، خصوصية زيارة هرتسوغ، في رسالة عنيفة ضد التطبيع الإماراتي، ومن أجل ليّ ذراع الإمارات في تدخلها الوحشي ضد اليمن، وهو ليٌّ نال من سمعة استقرارها، وهي تتنغص في استقبالها رئيسَ كيان ترفضه شعوب المنطقة، وهو ما عبّر عن فرحة أغلبية شعوبنا، حتى تلك المتباينة مع حكومة صنعاء بقيادة الحوثي.
وسبق لجمهور محور المقاومة أن طالب اليمن بتكرار قصفه الإمارات عند وصول رئيس الكيان لزيارتها المعلن عنها سلفاً، وهو ما استجاب له اليمن بكل أريحية، عبر ترسانته العسكرية المتطورة، والتي تتجاوز فيها صواريخه وطائراته المسيَّرة مسافات طويلة في العمق السعودي والعمق البحري، حيث القواعد والبوارج الأميركية التي تستنفر كلَّ منظومتها الدفاعية من أجل اعتراض هذه الصواريخ، وهي مسافات أطول من تلك التي يحتاج إليها اليوم للرد على أي حماقة إسرائيلية. فالمسافة نحو دبي تتطلب قطع الصواريخ مسافة 1800كم، بينما لا تبلغ مسافة قصف إيلات أكثر من 1600كم (10).
عند عرض مواقف الدول والشخصيات الإعلامية التي ندَّدت بالقصف اليمني أو التظاهرة الغزاوية، نجدها متناقضة في دعاويها واعتراضها. فالدول التي تقف عند عتبات السعودي أو سيده الأميركي، وخصوصاً تلك التي تدور في الفلك الأميركي، هي دول تفتقد إرادتَها السياسية، كمصر والأردن والمغرب، وغيرها، بما فيها حكومات الدول التي تنشط فيها قوى ثورية مشتبكة مع مصالح الأميركي في المنطقة، كحكومات عدن وبيروت وبغداد ورام الله. ولعل المتصفّح لأسماء الدول الستين المشارِكة في مناورات البحر الأحمر، يعي حقيقة مواقف هذه الدول في تبعيتها للأميركي، حيثما حلّ وبطش(11).
أمّا الشخصيات الإعلامية، التي بالغت في الردح ضد تظاهرة غزة المتضامنة مع اليمن، أو في الأسى على الحال العربية عقب القصف اليمني المتتابع للإمارات، وخصوصاً القصف غداة زيارة هرتسوغ، أو ذلك القصف العراقي (فصيل ألوية الحق) ضد أهداف حساسة في الإمارات بالمسيّرات المتفجرة، سواء كانت شخصيات الردح فلسطينية أو عراقية أو يمينة أو عربية، فنجدها إن خرجت من المستنقع الإماراتي، فهي تغوص عميقاً في المستنقع القطري، أو تقف عند عتبات السعودية أو مصر.
وأدنى تتبُّع لمواقف هذه الشخصيات، منذ بدء العدوان على اليمن، يجدها جميعاً وقفت خلف العدوان، وأيدته بكل ما أوتيت من صفحات ورقية أو إلكترونية أو فضائية، تحت دعاوي الانقلاب في صنعاء، أو دعم الأمن العربي الإقليمي، أو التصدي للغزو الفارسي أو الشيعي، وكأن السعودية دولة ديمقراطية، أو لعلها دخلت اليمن عاصمةً للأمل بحق، كما يظنّ هؤلاء الحمقى المموَّلةُ حروفهم بالدولار الأميركي، أو كأن لدى السعودية ومصر فعلاً أدنى علاقة بالأمن العربي الإقليمي، و”إسرائيل” تعبث به من المحيط إلى الخليج من دون أيّ اعتبار، ولو شكلي، لكبار العرب!!!(12)
أمّا دعاوي هذه الشخصيات المتناقضة بشأن “الغزو الفارسي والشيعي” لليمن، فهي دعاوٍ مضحكة فعلاً، وخصوصاً عندما يتصدَّر التشدقَ بها قوميٌّ مفلس، لا يميز بين السياق القومي والسياق المذهبي. فهو تارة يهاجم إيران بسبب ما يزعمه عن قمع للشيعة العرب في الأهواز، أو التدخل في شؤون الشيعة العرب في العراق، ثم فجأة يرى أن هؤلاء سنّة سلفيون يغارون على معاوية بن أبي سفيان من النقد الشيعي! والعكس كذلك، عندما تجد السلفيين أو الإخوانيين، من هذه الشخصيات، يُسْتَفَزُّون من أيّ تضامن يمني فلسطيني عراقي، فهم قوميون عروبيون وسنيّون أصوليون، في آن واحد، ما دام الأمر يتعلق بإيران، عبر خلطة فكرية سياسية إعلامية عجيبة، يندى لها الجبين العربي والجبين المسلم(13).
وكان الأَولى بهؤلاء، لو كانوا عروبيين فعلاً، أن يغاروا على شعب اليمن العربي الأصيل، وهو يتعرض لمذبحة لا تتوقف منذ سبع سنوات بالطائرات الأميركية. وفي حال كانوا إسلاميين وسلفيين، لكان الأجدر أن يستفزهم “تحالف الكفّار” جميعاً ضد اليمن. فها هي ستون دولة، تعلوها راية الكفر الأميركي والإسرائيلي، تعربد على أطلال أمتنا المسلمة في مناورات حربية تشترك فيها كل أنظمة التطبيع مع المحتل الإسرائيلي للقدس، قِبلة المسلمين الأولى، بما فيها بقايا نظام المرتزقة في عدن، وهو النظام الذي يدعمه هؤلاء، بكل ما أوتوا من قوة(14).
إن كل تضامن عربي عربي إنما هو تعبير عن أصل عقائدي منبثق من طبيعة دين العرب وحضارتهم الإسلامية، فهو تعبير قرآني أصيل (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) (15)، وهو عامل سياسي وإبداع فكري يصبّان في مصلحة العرب الاستراتيجية، لكنه الصراع السياسي والارتهان للمشاريع الأميركية والإسرائيلية، وخصوصاً إذا علمنا بأن المعترضين على كل تضامن مع الشعب اليمني ضد الوحشية السعودية الإماراتية، هم ذواتهم يُصدرون البيانات تلو البيانات دفاعاً عن هذه الوحشية. وهو ما ظهر جلياً في أزمة وزير الإعلام اللبناني المستقيل جورج قرداحي، الذي عدّ الحرب على اليمن حرباً عبثية، في تصريح قبل تنصيبه، فإذا بالأمر يتحول إلى أزمة كبيرة، هددت فيها السعودية بطرد اللبنانيين المقيمين بها، وما تبع ذلك من مواقف محزنة صدرت عن الحكومة اللبنانية تزلّفاً للسعودية، في مشهد مفضوح ولا يخفى على متابع.
ولعلّ قيام مجموعة من السلفيين في غزة بإحراق صور السيد نصر الله والشهيد سليماني، يعكس حالة الإحباط التي يشعر بها من يقف خلف هؤلاء، من جهة. ومن جهة أخرى، فإن ذلك يطرح سؤالاً بين يدي من اعترض على التضامن الفلسطيني مع صنعاء، بحجة تعريض المصلحة الفلسطينية للخطر في ظل الغضب السعودي. فهل مصلحة فلسطين تنحصر في عدم إغضاب السعودية من دون البلد المجاور؛ لبنان، مثلاً، وهو البلد الذي احتضن منظمة التحرير الفلسطينية ومقاومتها، وما زال يحتضن مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين، ويحتضن اليوم قيادة المقاومة الفلسطينية الراهنة، ويوفر لها الأمن الكامل، وقد أغلقت الدنيا في وجوههم. وما قصة القائد صالح العاروري عنا ببعيدة، حين ضاقت به تركيا وقطر وماليزيا، فلم يجد غير الضاحية الجنوبية لبيروت لتعانقه(16).
إن تصاعد التضامن الفلسطيني اليمني، وما تبعه من تضامن عراقي عسكري، يشكّلان باكورة أمل في اصطفاف عربي وإسلامي عملي حقيقي، من أجل رفع الظلم والعربدة عن كواهل شعوبنا.
وما صراخ أنظمة السوء وشخصيات العبث، هنا أو هناك، إلاّ تعبير عن اصطفاف كلي أو جزئي في الفلك الأميركي، وهو اصطفاف رأيناه ونراه في الحرب على سوريا، وتصاعد الحصار على لبنان، وتجدد محاولات خنق غزة، وتفتيت العراق.