مناورات “الرعد” الروسية في ظلال معارك أوكرانيا
موقع قناة الميادين-
محمد منصور:
كانت وتيرة المناورات العسكرية ذات الطبيعة النووية قد تراجعت بشكل كبير في مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، لكن داوم كل من حلف الناتو وموسكو والولايات المتحدة الأميركية على تنفيذ مناورات نووية دورية.
تطورات لافتة ومهمة طرأت خلال الشهر الجاري في سياق مسلسل “الرسائل النووية” المتبادلة بين موسكو من جهة، وواشنطن وحلف الناتو من جهة أخرى، منذ بداية العمليات العسكرية في أوكرانيا، تمثلت فيما بدا أنه “تبادل” للمناورات النووية بين الجانبين، بعدما بدأ حلف الناتو في السابع عشر من الشهر الجاري مناورات “الظهيرة الثابتة” النووية التكتيكية، ثم حذت حذوه موسكو عبر مناورات “الرعد” النووية التي بدأت في السادس والعشرين من الشهر الجاري، بإشراف مباشر من الرئيس فلاديمير بوتين.
تاريخياً، كانت وتيرة المناورات العسكرية ذات الطبيعة النووية قد تراجعت بشكل كبير في مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، لكن داوم كل من حلف الناتو وموسكو والولايات المتحدة الأميركية على تنفيذ مناورات دورية لاختبار جاهزية الوحدات النووية الاستراتيجية، وكذا القيام بتجارب لإطلاق الصواريخ العابرة للقارات، وإن كانت وتيرة هذه التجارب متباعدة وأقل كثافة نتيجة لاعتبارات سياسية ولوجستية، لكن لوحظ خلال السنوات الأخيرة تصاعد تدريجي في حجم ومستوى مناورات اختبار جاهزية الوحدات النووية الروسية الإستراتيجية، وتحديداً منذ عام 2012، الذي شهد بداية مناورات “جروم” أو “الرعد” النووية التي كانت تتم على مدار يوم واحد.
كان ضمّ موسكو شبه جزيرة القرم عام 2014 حدثاً كان له أثر واضح في الاستراتيجية العسكرية الروسية في ما يتعلق بالأسلحة النووية، إذ بدأت الرؤية الروسية في هذا الصدد تتلمَّس العوامل السياسية جنباً إلى جنب مع العوامل الإستراتيجية والتكتيكية، وهو ما عكسه مضمون خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام الجمعية الفيدرالية في آذار/مارس 2018، والذي كان ملخصه أن الترسانة النووية الروسية هي أداة سياسية بالقدر نفسه الذي تعتبر فيه أداة عسكرية، وهو ما يفسر حرص بوتين على المشاركة بشكل شخصي في مناورات “الرعد” النووية منذ 2012 وحتى نسخة هذا العام.
محطات في “السياق النووي” الروسي
نظرياً، لا يجب النظر إلى نسخة هذا العام من مناورات “الرعد” النووية بمعزل عن عدة سياقات أساسية، أولها هو السياق العملياتي والتدريبي للقوات النووية الروسية، والذي دخل مرحلة نشطة منذ قرار موسكو تفعيل حالة الجاهزية القصوى لقوة الردع النووية الروسية في شباط/فبراير الماضي.
نقطة البداية في هذا السياق كانت في الشهر نفسه عبر تنفيذ مناورات نووية تكتيكية، تم اعتبارها بمنزلة نسخة العام الماضي من مناورات “الرعد”، نظراً إلى أن هذه المناورات لم تقَم في موعدها العام الماضي. وقد تم خلال هذه المناورات إطلاق صواريخ “كينجال” الفرط صوتية، إلى جانب صاروخ “SS-29/Yars” العابر للقارات.
المحطة التالية في هذا المسار كانت في آذار/مارس الماضي، حين حلقت 4 طائرات تابعة لسلاح الجو الروسي نحو جزيرة “جوتلاند” السويدية. وقد اكتشفت السلطات السويدية لاحقاً أنَّ اثنتين منها، وهما قاذفتان من نوع “سوخوي-24″، كانتا تحملان ذخائر نووية.
تلا ذلك تجربة صاروخية مهمة تمت في نيسان/أبريل الماضي لإطلاق الصاروخ العابر للقارات “SS-28/Sarmat”، الذي بدأ تطويره أوائل الألفية الحالية، ودخل الخدمة عام 2021. يتراوح مداه الأقصى بين 10.000 و18.000 كيلومتر، ويتم إطلاقه حصراً من صوامع تحت أرضية، ويتزود بمحرك ثلاثي المراحل يعمل بالوقود السائل، ويستطيع حمل حمولة تصل زنتها إلى 10 طن، سواء على شكل رؤوس حربية، أو على شكل مركبات انزلاقية، أو ما يعرف بـ “مركبات إعادة الدخول”.
والجدير بالذكر أنَّ الوحدات الصاروخية الروسية في منطقة “كالينغراد” قامت في أيار/مايو الماضي بتنفيذ عملية محاكاة إلكترونية لإطلاق صواريخ “إسكندر” البالستية التكتيكية التي تمتلك القدرة على حمل رؤوس نووية.
في حزيران/يونيو الماضي، قامت الوحدات الصاروخية الروسية في منطقة “إيفانوفو” شمال شرقي موسكو بتنفيذ تدريبات لقياس جاهزية منصات إطلاق صواريخ “يارس” العابرة للقارات، في خطوة أخرى يمكن وضعها ضمن هذا السياق “النووي”، لكن كانت الخطوة الأكثر لفتاً للانتباه في هذا السياق هي التحركات الغامضة التي قامت بها إحدى أهم وأحدث الغواصات النووية الروسية، وهي الغواصة النووية “بيلوغراد” التابعة لأسطول بحر الشمال من الفئة “أوسكار-2″، والتي ظل مكان وجودها الحالي محل شكوك غربية كبيرة، لكونها الغواصة الروسية الوحيدة المؤهلة لحمل الطوربيد النووي “بوسايدون”؛ أحد أهم الأسلحة البحرية الروسية على الإطلاق.
بدا من هذا الغموض أن موسكو كانت “تناور” بهذه الغواصة لإحداث حال من الهلع لدى الدول الأوروبية، تكمل بها السياقات النووية التي تحاول من خلالها الإيحاء بوجود استعدادات جدية لاستخدام أسلحة نووية. اتضح بعد ذلك أن هذه الغواصة كانت قد غادرت قاعدتها في “سيفيرودفينسك” في أيلول/سبتمبر الماضي، وظهرت الشهر الحالي في بحر بارنتس أثناء عودتها إلى قاعدتها.
هذه الخطوات المتعددة في “السياق النووي” الذي تستهدف منه موسكو التأكيد على جاهزيتها لاستخدام هذا الخيار، شمل عدة خطوات جانبية، مثل الإعلان عن تمركز وحدات صاروخية من نوع “إسكندر” في بيلاروسيا، وتجهيز القاذفات البيلاروسية من نوع “سوخوي-25” بالتجهيزات الفنية التي تمكنها من حمل ذخائر نووية، وهذا بالطبع ضمن تحركات روسية أكبر في بيلاروسيا، تم من خلالها تكوين قوة مشتركة وزيادة احتمالات إعادة تفعيل الجبهة الشمالية الأوكرانية، وخصوصاً في ظل الحديث الروسي المتكرر عن احتمال استخدام كييف “قنبلة قذرة” تحمل ذخائر نووية.
بالعودة إلى ملف المناورات النووية الروسية، يعتبر عام 2019 بمنزلة البداية الحقيقية لمناورات “الرعد”، إذ شهدت نسخة هذا العام للمرة الأولى اختبار كل أضلاع “الثالوث النووي” الروسي، الذي يتمثل بالقاذفات الاستراتيجية والصواريخ العابرة للقارات والصواريخ البالستية المطلقة عن متن الغواصات النووية.
مناورات 2019 كانت ذات أهمية خاصة، ليس بسبب اختبار هذا الثالوث فحسب، بل لأنها كانت أيضاً دليلاً دامغاً على أن التسليح النووي ما زال ركناً أساسياً في منظومة الردع العسكري الروسية، وخصوصاً أن هذه المناورات تضمنت التدريب على سيناريوهات نووية دفاعية وهجومية، سواء عبر تنفيذ ضربات نووية استباقية أو ضربات انتقامية رداً على هجمات معادية، وكذلك ظهور تكتيك جديد لا يعتمد على المبدأ الكلاسيكي “التصعيد المتدرج”، بل يعتمد على تنفيذ ضربات متزامنة ضد أهداف تقع على مسارح عمليات مختلفة باستخدام منظومات تقليدية وغير تقليدية بشكل مشترك، وهو ما كان واضحاً بشكل أكبر من خلال اختبار المنظومات الأساسية للثالوث النووي خلال مناورات 2019، وليس الاكتفاء باختبار ضلع واحد من أضلاعه، كما كان الحال عليه في مناورات سابقة.
يُضاف إلى ما سبق حقيقة أن المناورات النووية الروسية لعام 2019 كانت مرتبطة بشكل وثيق بمناورات أميركية مماثلة تمت في العام نفسه، وكذلك انسحاب واشنطن من معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة المدى في تشرين الأول/أكتوبر 2018، وهو الارتباط الذي وضع الجوانب المتعلقة بالعلاقة مع واشنطن وحلف الناتو بشكل أكبر ضمن دائرة الأهداف التي يراد من مثل هذه المناورات تحقيقها، وهو المنظور الذي يمكن من خلاله النظر في مناورات هذا الشهر “الرعد 2022″، التي تبدو – من حيث المبدأ – رداً على المناورة الجوية النووية لحلف الناتو، والتي بدأت في السابع عشر من الشهر الجاري وستستمر حتى نهايته.
القدرات النوعية في مناورات “الرعد 2022”
فيما يتعلَّق بنسخة هذا العام من مناورات “الرعد”، يمكن القول إنها حملت شكلاً أوسع وأشمل من المناورات الجوية النووية لحلف الناتو، إذ تجري أحداثها في النطاق الشمالي الغربي للبلاد، ويشارك في فعالياتها التي ستستمرّ حتى التاسع والعشرين من الشهر الحالي نحو 12 ألف جندي، إلى جانب منصات لإطلاق صواريخ “SS-29/Yars” العابرة للقارات، والغواصة النووية “بوري” من الفئة “Delta IV”، الحاملة لصواريخ “RSM-54 Sineva” العابرة للقارات، وقاذفتين إستراتيجيتين من نوع “توبوليف-95”.
مناورات هذا العام تطابق من حيث المبدأ مناورات عام 2019. وقد بدا منها أن السيناريو الأساسي الذي يتم التدرب عليه هو سيناريو “الضربة الاستباقية المتعددة الاتجاهات والوسائط”. خلال المناورات الجارية حالياً، تم إطلاق صاروخ عابر للقارات من نوع “RSM-54 Sineva” من الغواصة السالف ذكرها، من منطقة بحر بارنتس نحو ميدان الرماية في منطقة “كورا” في شبه جزيرة كامتشاتكا.
صاروخ “سينيفا” يعتبر من ضمن 3 أنواع من الصواريخ الروسية العابرة للقارات التي يمكن إطلاقها عن متن الغواصات. يعمل هذا الصاروخ بالوقود السائل، ويمكن أن يحمل 4 رؤوس حربية منفصلة، وتم بدء تجارب إطلاقه في شباط/فبراير 2004، ويصل مداه الأقصى إلى 11 ألف كيلومتر.
الضلع الثاني من أضلاع الثالوث النووي الذي تم استخدامه في هذه المناورات هو الصاروخ العابر للقارات “SS-29/Yars” الذي تم إطلاقه من قاعدة “بليسيتسك” الجوية. دخل هذا الصاروخ ضمن قوات الصواريخ الإستراتيجية الروسية عام 2010، ويتم إطلاقه من صوامع ثابتة أو منصات ذاتية الحركة، وهو عامل بالوقود الصلب، ومزود بثلاثة رؤوس حربية منفصلة مزودة بتقنية “إعادة الدخول”، وإمكانية توجيه كلّ منها بشكل منفصل نحو أهداف مختلفة، وتبلغ زنة هذه الرؤوس مجتمعة 1200 كيلوغرام، ويصل إجمالي قوتها في حال كانت نووية إلى 200 كيلوطن. ويصل المدى الأقصى للصاروخ إلى 10.500 كيلومتر، وقد نفَّذت موسكو التجربة الأولى لإطلاقه أواخر عام 2017.
أما الضلع الثالث، فيتمثل بمشاركة قاذفتين استراتيجيتين من نوع “توبوليف-95” في هذه المناورات، ويعتقد أنها قامت بإطلاق صواريخ جوالة من نوع “كي إتش-102” التي دخلت الخدمة عام 2012، وتبلغ زنة الرأس الحربي الخاصة بها 450 كيلوغراماً، ومداها الأقصى يبلغ 2800 كيلومتر، وتصل قدرة رأسها الحربي في حال تزويده بشحنة نووية إلى 250 كيلوطناً. يتوقّع أن تشمل المناورات الجارية حالياً عمليات إطلاق صواريخ أخرى قد يكون من بينها صواريخ “كينزال” الفرط صوتية أو صواريخ “سارمات” العابرة للقارات.
رسائل موسكو من وراء “الرعد النووي”
على المستوى العام، تستهدف موسكو من تنفيذ هذه التدريبات النووية في هذا التوقيت تحديداً توجيه مجموعة من الرسائل، تبدو واشنطن وحلف الناتو المستهدفين الأكبر منها نظراً إلى عوامل عدة، منها تصاعد الأنشطة العسكرية لحلف الناتو قرب الحدود الروسية، حيث بدأ حلف الناتو تدريبات الردع النووي “الظهيرة الثابتة” في السابع عشر من الشهر الجاري، وحتى الثلاثين من الشهر نفسه، بمشاركة 14 دولة أوروبية، وما يصل إلى 60 مقاتلة.
مسرح عمليات هذه المناورات تشمل المجال الجوي البلجيكي، إذ تم اختيار قاعدة “كلاين بروغل” في مقاطعة ليمبورغ البلجيكية قاعدة أساسية لهذه المناورات، إلى جانب المجال الجوي البريطاني وبعض أجزاء المجال الجوي لبحر الشمال.
هذه التدريبات التي تتم على بعد نحو 1000 كيلومتر من الأراضي الروسية، تشمل تدريب مقاتلات “أف-16” على استخدام القنابل النووية التكتيكية “بي-61″، وكذا تدريب الطواقم الأرضية على العمليات المتعلقة بإخراج هذه القنابل من مخازنها وتجهيزها، وهي التدريبات التي تكررت سابقاً في تشرين الثاني/نوفمبر 2021.
حينها، اقتربت قاذفات أميركية من الحدود الروسية من اتجاهين مختلفين، وتحدث وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو عن قناعته بأن هذه الحادثة كانت تتضمن تدريباً على توجيه ضربة نووية لروسيا.
هذه المناورات رفعت حدة التوتر في النطاق الإقليمي الروسي، وخصوصاً بعدما وصلت في الآونة الأخيرة – وللمرة الأولى منذ 80 عاماً – وحدات تابعة لفرقة الإنزال الجوي 101 الأميركية، كي تشارك في مجموعة من التدريبات التي تضاف إلى تحركات تدريبية أميركية أخرى تتم في نطاق الأسطولين الخامس والسادس.
الظهور المفاجئ للغواصة النووية الأميركية “يو أس أس وست فيرجينيا” المحملة بصواريخ بالستية في بحر العرب في العشرين من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، كان أيضاً بمنزلة محفز إضافي لتنفيذ موسكو مناوراتها النووية، فواشنطن تعتبر هذه الفئة من الغواصات “جوهرة التاج” للثالوث النووي الأميركي، علماً أنَّ التحركات الأميركية في هذا الإطار لم تقتصر على هذا التحرك النوعي – الذي قد يكون له ارتباطات بملفات أخرى مثل الملف الصيني أو الإيراني – بل تضمنت تنفيذ تجربة صاروخية في آب/أغسطس الماضي، لإطلاق الصاروخ البالستي العابر للقارات “LGM-30G Minuteman”، من قاعدة “فاندنبيرغ” الجوية في اتجاه جزر مارشال. وقد قطع الصاروخ خلال هذه التجربة مسافة تناهز 7 آلاف كيلومتر.
يعد هذا الصاروخ النوع الوحيد في الترسانة الصاروخية الأميركية العابرة للقارات، الذي يمكن إطلاقه من منصات أرضية وتحت أرضية، ويعتبر الضلع الأول في “الثالوث” النووي الأميركي، الذي يشمل صواريخ “ترايدنت” البالستية التي يتم إطلاقها عن متن الغواصات، والقنابل النووية التكتيكية التي يتم إطلاقها من القاذفات الاستراتيجية.
وأخيراً، لا يمكن إغفال الرسالة السياسية للمناورات النووية الروسية، وخصوصاً في ظل حرص الرئيس الروسي على المشاركة بشكل شخصي في مناورات هذا العام، كما فعل في كل النسخ السابقة، بحيث يتم توجيه رسائل أيضاً إلى الداخل الروسي في ما يتعلق بالعمليات العسكرية في أوكرانيا.
النقطة الواجب ذكرها في هذا الصدد هو تكرار الحديث الروسي عن احتمالات توسع ميدان الصراع مع حلف الناتو بشكل لا يجعله يقتصر على الميدان الأوكراني، وربما من هذه الزاوية يمكن النظر إلى حديث أحد النواب الروس عن إمكانية نقل صواريخ “فويفودا” البالستية المتقادمة إلى سوريا، لكن المؤكد أن موسكو تبدو أكثر إصراراً على إظهار أنها تمتلك العزم الكافي لرفع مستوى التحدي في أوكرانيا ليشمل الجانب النووي، في حال خرج الوضع الميداني والتكتيكي والتسليحي عن الخطوط الروسية الحمراء، التي لم تعد ظاهرة بشكل واضح وسط غبار معارك جنوب أوكرانيا.