مناورات إسرائيلية بقفّازات دبلوماسي
صحيفة الخليج الإماراتية ـ
نسيم الخوري:
قام الجيش “الإسرائيلي” (19/9/2012) بمناورات عسكرية واسعة ومفاجئة، شاركت فيها قوات من قيادتي المنطقتين الشمالية والوسطى وسلاح الجو وسلاح المدفعية، بدأها بإنزال قوات كبيرة في هضبة الجولان توحي وكأنها جزء من حرب كبيرة واسعة اندلعت على إيران . السبب أنها مناورات ضمّت عدداً من وحدات القيادة المركزية وقوات الاحتياط التي استدعيت بشكل مفاجئ ومن دون سابق إنذار، فضلاً عن قوات من سلاح الجو ومختلف أسلحة الجيش من مدرعات ومدفعية ومشاة، وهي تجاوزت اختبار جاهزية بعض الوحدات المقاتلة وتأهبها . ظهر الإصرار لدى الكثير من المحللين والمواقع الإخبارية بأنّ ما حصل هو ليس مناورة على الإطلاق، بل محاكاة خطرة للحرب الوشيكة المنتظرة على إيران بسبب برنامجها النووي المثير للجدل اليومي، وترجمة للتوترات الكثيرة القائمة بين هذين البلدين . ما المقصود من تلك التهويلات عن الحرب التي تبدو وكأنها مستحيلة؟
المقصود أنّ الحبر العالمي على مستوى تقارير السفراء ومقالات الخبراء، يكاد يبدو مسكوناً، ومنذ وقتٍ بعيد، بمسألة الحرب على إيران أو ضرب مفاعلات إيران النووية أو بعضها، أو على الأقل ضرب المقاومة في لبنان، وكأنّ المهمّ في كلّ هذه “الحمم الإعلامية”، إبقاء الضوء ساطعاً فوق البقعة الإيرانية، أو في الحدّ الأدنى عدم إطفاء الشمعة التي نقرأ على ضوئها ضرورة ضرب إيران . والواقع أننا لا نستطيع انتزاع الحرب الحتمية على إيران من بين فكّي التردد الأمريكي والحسد أو التوجس “الإسرائيلي”، إن لم نبرز الغموض في “العلاقات” الإيرانية – “الإسرائيلية” التي تبدو في تاريخها الطويل، نوعاً من تراكم متجدد للألغاز والأحاجي . صحيح أنّ دراسات كثيرة وكتباً تناولت هذه العلاقات المعقّدة بين إيران و”إسرائيل”، لكنها مسألة بقيت أو تبقى محكومة بدور هذين البلدين في منطقة الشرق الأوسط التي تغلي على قدرهما إلى درجة باتت توحي وكأنها تمسّ مباشرة الأمن القومي للولايات المتحدة، في وقت تلهو فيه الدولة التركية والكثير من الدول الأخرى بالمعضلة السورية المنتشرة إلى ما يتجاوز جغرافيتها . يمكن القول إنّ الأديان والمذاهب فاضت فوق الحدود الجيوستراتيجية التي أسقطت أمريكياً بفعل العولمة، بعدما ارتفعت بفعل الحروب، لكن الكلام يبقى خالياً من المعنى عند التطرق إلى الموضوع الإيراني – “الإسرائيلي” من دون أمريكا . يتعذر تحليل هذه العلاقة إلاّ بشكلها الثلاثي البادئ بالألف حتى عند التسمية أي أمريكا – إيران – “إسرائيل” . وقد يحار الكاتب أيّ ألف يضع في البداية وطبقاً لطبيعة الأحداث وحدّتها سواء أكانت مناورات أم تهديدات بالحذف عن الخرائط . وهنا السؤال: كيف إلى التوفيق إذاً، بين الدول الثلاث في الخصومة والدبلوماسية والحروب؟ أو كيف إلى فهم الألغاز والتفريق بين التوترات والتهديدات والعلاقات والأحلاف القديمة وتقاطع المصالح؟ في الجواب عن هذين السؤالين، يمكن تبرير إحجام الكثير من الكتاب تاريخياً عن الغوص في تفاصيل هذا الموضوع، إذ من يمعن في تقلبات المواقف السياسية أو حتى العسكرية منها والتهديدات غير المنقطعة بين إيران و”إسرائيل”، يدرك أنّ تجاهل أمريكا غير الحاد لأي تحرك في الشرق الأوسط، هو نوع من الإقرار الضمني المطمئن، لا بكونها مشغولة بالانتخابات الرئاسية، ولا بخوفها على تأثير تلك التقلبات أو التهديدات في سياستها الخارجية أو حضورها في الشرق الأوسط، بالرغم مما حصل ويحصل في ليبيا وتونس واليمن وغيرها من البلدان الإسلامية التي تجيب بالفم الملآن والعلم المحروق واجيتاح السفارات، عن السؤال الذي طرحه الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش: “أي لماذا يكرهوننا؟” إنّه تغاضٍ فاقع بعد خروجها عسكرياً من العراق وبقائها عسكرياً وسياسياً في الشرق الأوسط كلّه، بأنها مشغولة في نفوذها الظاهر بإشعال فتائل الجزر بين الصين واليابان، وبروسيا وصولاً إلى كنوز القوقاز، إنها مهمومة بهذا كلّه وبمسائل أكثر تعقيداً، يفترض أن ننتظر كثيراً قبل تبلورها . هناك خروج شبه نهائي من بناء نظام جديد للشرق الأوسط على قاعدة عملية سلمية بين الفلسطينيين و”الإسرائيليين” كما حصل قبل ال ،1991 حيث هزّت الزلازل بعد هذا التاريخ، والتي جاءت بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وسقوط العراق منذ حرب التحالف الأوّل في الخليج، جذور العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران و”إسرائيل” . صحيح أنّ الجهود انصبّت على التسويات المؤجّلة أو المستحيلة، لكن التداخل بين الأيديولوجي والديني والاستراتيجي في السلوك السياسي العربي والإيراني، فتح نوافذ يهودية “إسرائيل”، وأذكَى الصراعات المذهبية والطائفية، وأيقظ الكثير من الأقليات، الأمر الذي يدفع إلى حلول وأوراق حلول سيطول انتظارها، وسيتم التفاوض عليه بمختلف الأساليب والأشكال الباردة الدبلوماسية والحامية العسكرية . إذاً، يكاد يخرج العالم والشرق الأوسط تحديداً بعد التحولات الكثيرة والمتغيرات التي عصفت بالكثير من البلدان العربية والإسلامية من المقولة التي لازمت العقود السبعة المنصرمة، والتي تقول إنّ باب السلام في الشرق الأوسط هو في إيجاد حلّ للصراع التاريخي العربي والفلسطيني مع “إسرائيل” . وصحيح أنها مقولة كانت تحظى بالميادين الجيوسياسية الدولية وبعض قرارات الأمم المتحدة وتحرك القوميات والأيديولوجيات العربية والحميّات الدينية، حتّى إنّها بلعت تقديم إيران الإسلامية نفسها في القضية الفلسطينية، ولكنني بين الذين كانوا ومازالوا يجادلون على أنّ التحولات الكبرى في علاقات الغرب مع البلدان الشرق أوسطية، قضايا ذات روحية أيديولوجية دينية أكثر من أي مصطلح آخر في قواميس الغرب، ولا أرى في العداوة المستحكمة بينه وبين الكثير من المسلمين بعد الإمعان في محاولات الطعن والتطاول المتكرر على مقدسات المسلمين ورسولهم النبي محمد، سوى إمعان لأطرافٍ خفيّة صهيونية تبحث، كما المألوف، عن تخريب علاقات المسلمين بالغرب كلّما استوت تلك العلاقات في مكانٍ ما، حتّى ولو كان القدس هو المكان .
نحن نخرج من وقعٍ لمفاهيم موازين القوى المستهلك والمستمر منذ العام 1979 تاريخ ولادة الثورة الإسلامية التي شكلت نكسةً كبيرة ل”إسرائيل” لم تحل دون دعمها لإيران والعمل على تحسين علاقاتها مع أمريكا كسلوكٍ طبيعي تجاه العرب . ولنقل إننا، لغاية اليوم، لا يقلق إيران سوى الخوف من عزلتها الإقليمية والدولية فتنتصب ألفها، ولا يقلق “إسرائيل” سوى حوار أمريكي إيراني يلهي أمريكا عن مصالح “إسرائيل” في عصر رواج التفتيت والتقسيم فتنتصب ألفها، ولا يقلق أمريكا سوى شكل النظام العالمي الجديد بعد أن قفزت دول عظمى منافسة إلى الواجهة، في الزمن الذي تقفز فيه هي نحو أقاصي الشرق . لا تخافوا إذاً، من المناورات التي تلبس قفّازات الدبلوماسيين .