مناعة القطيع من كورونا إلى الغاز: السقوط المريع للقيَم «البقاء للأقوى»
جريدة البناء اللبنانية-
خضر رسلان:
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وثيقة دولية تبنّتها الأمم المتحدة في العام 1948، العام الذي تواطأت فيه مجموعة من الدول الموقعة على الإعلان العالمي وفي مقدّمهم بريطانيا الدولة المنتدبة من قبل عصبة الأمم على فلسطين في استباحة أرضها وتعبيدها أمام الصهاينة الغزاة، في خرق فاضح للقوانين الدولية ولشرعة الحقوق نفسها وبنودها الـ 30 التي أصبحت أداة طيّعة في متناول أصحاب النفوذ والسطوة والقوة، وتتسم بسياسة الكيل بمكيالين وفق ما تقتضيه مصالحهم.
في قراءة نقدية للأحوال العالمية ومنظومة القيَم تكشف الوقائع عن بروز سجل أسود ومفتوح يشير الى إعادة تبلور ثقافة التناحر والتوحّش التي كانت سائدة في أوروبا قبل بروز فلسفة الأنوار وابتداع شرعة حقوق الإنسان، وقد كان لافتاً ما أشار إليه كبير المستشارين في مركز البلطيق للأبحاث الاجتماعية، البروفيسور أوليغ أندرييف أنّ جوهر الخلاف لا يكمن حول القيَم الوهمية الجديدة، بل في الصراع الدائر بصورة مستمرّة، وهو صراع جيوسياسي واقتصادي، من أجل الموارد الطبيعية، وقد بلغ ذروته في المرحلة الراهنة بسبب شحّ هذه الموارد في أوروبا وانتهائها.
وبناء على ما تقدّم يمكن قراءة الأزمة القيمية الأوروبية من خلال السلوك الذي تمّ ويتمّ انتهاجه في ثلاث محطات:
1 ـ أزمة كورونا ومناعة القطيع
على الرغم من الكمّ الكبير التي اتخذته أوروبا في القضايا الدولية المتعارضة مع منظومة القيَم التي تبنّتها إلا أنّ تعاطيها مع جائحة كورونا كشفت عن وجود هوة واسعة بين ما تدّعيه وبين سلوكها خلال هذه الأزمة وانتهاجها سياسة مناعة القطيع الطبيعية رغم أثمانها البشرية والأخلاقية العالية جداً، والتي تعني التضحية بملايين البشر، وخاصة كبار السن، الذين سيفقدون حياتهم نتيجة لذلك، وهذا بخلاف ما أوصت به منظمة الصحة العالمية من أنّ مناعة القطيع تكون بالتحصين من خلال اللقاح وليس من خلال ترك الناس تموت، وهذا فضلاً عن التناحر الذي شاع بين الدول الأوروبية من حجب اللقاحات في محاولة للاستئثار بها تجسيداً لنظرية البقاء للأقوى التي أخذت مكانها متصدّرة منظومات القيَم الغربية التي يبدو أنها ستكون الحاكمة في القابل من الأيام.
2 ـ ارتفاع منسوب العنصرية
مبادئ وقيَم عصر التنوير التي قام عليها المجتمع الغربي، والتي تجسّد بعضها بالثورة الفرنسية وبعضها الآخر بتأصيل مجموعة من الحريات والحقوق في المجتمع الأوروبي، يبدو أنها قد نخرها السوس وحرك فيها العصب العنصري والانطوائي، وقد بدأت إرهاصات ذلك مع بروز الفاشيين الجدد واقترابهم من مراكز القرار في العديد من الدول الأوروبية، وعلى الرغم من المشاهد العنصرية التي يمكن تلمّسها في الحياة اليومية، سواء أكان ذلك عبر الاستهداف الكلامي والتمييز في التفاصيل (توقيف الشرطة لشخص على أساس لونه أو شكله أو ملبسه، أو عبر رفض التوظيف بسبب الاسم الأجنبي وغيرها الكثير الكثير من الأمثلة)، إلا أنّ ما كشفته أزمة اللاجئين الأوكرانيين في أوروبا عن معايير مزدوجة تطبع أداء الأوروبيين وتعاملهم حيال مسألة المهاجرين من دول أفريقية أو آسيوية، إضافة لذلك ما أدلى به منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل من تصريحات شبّه فيها أوروبا بالحديقة المتميّزة والعالم حولها بالأدغال! في توصيف يكشف بشكل هائل عن الهوة الكبيرة التي وصلت إليها منظومة القيَم الغربية بشكل عام والأوروبية بشكل خاص.
3 ـ الغاز واستنساخ نظرية مناعة القطيع
عناوين ومفاهيم قاسية وشديدة الوطأة لم تألفها أوروبا من عقود طويلة مثل نقص السلع والتقشف والركود الاقتصادي وصولاً الى أزمة الوقود لا سيما الغاز، وبروز موجات غير معهودة من حالات الإحباط والعجز حيث يجهد الكثير من مراكز الدراسات لقراءتها وتحليلها استشرافاً لمستقبل بدت ترتسم معالمه بما يوحي انّ المزاج الأوروبي العام وانسجاماً مع روحية مناعة القطيع، وحيث انّ الاستحواذ على الطاقة بأنواعها المختلفة لا سيما منها الغاز أصبح هدفاً استراتيجياً حيوياً ومعياراً أساسياً في رسم خطوط الصراعات وإقامة التحالفات وتشنّ لأجله الحروب وهو الحاكم في منظومة القيَم الحديثة التي تحاكي ما كانت عليه أوروبا إبان بدايات القرن الماضي وما قبله من حروب دامية طالت الحجر والبشر بشكل همجي ومتوحّش، وكان ذلك في سبيل اقتناص الموارد الاقتصادية والاسئثار بها تحت عنوان البقاء للأقوى.
وبناء على الواقع الحالي وقياساً بما سلكته أوروبا في القرون الماضية فإنّ السؤال الكبير الذي يطرح نفسه هل يؤدّي الصراع على الغاز الى إعاده صياغة أحداث التاريخ من جديد معيدة أوروبا الى عصر ما قبل فلسفة الأنوار حيث التقوقع على الذات والقتال الدامي والاجتياحات وتغيير الخرائط ضمن منظومة قيمية متجدّدة عنوانها مناعة القطيع والبقاء للأقوى.