معضلة اوكرانيا – روسيا جيوسياسية بامتياز
تاريخياً، تشكل اوكرانيا منطقة عازلة Buffer Zone واهميتها للامن القومي الروسي تتجاوز كل الفرضيات اي كان مصدرها وعبقرية صاحبها. كما انها الممر الوحيد للغاز الروسي الطبيعي الى اوربا.
يأمل الاوكرانيون المعادون لروسيا (يشكلون الغالبية العظمى غرب اوكرانيا) بالانضمام الى الاتحاد الاوربي والحلف الاطلسي مما يعني ان وصول قوات الحلف الاطلسي الى الحدود الغربية ستراه روسيا تجاوز لكل خطوط الحمر المرسومة والتفاهمات السابقة. ابتلاع الناتو لاوكرانيا بجغرافيتها الحالية غير مسموح بالنسبة للروس. في ظل التوترات الممتدة من شرق بحر الصين الى الشرق الاوسط الى شرق اوربا، لا بد ان في جعبة بوتين خيارات.
لماذا اوكرانيا وبهذا التوقيت الذي تتجه الامور الى الحسم العسكري في سوريا لصالح محور المقاومة الذي تقوده ايران وهزيمة مدوية لمحور الارهاب الذي تقوده السعودية؟
ما جرى في اوكرانيا خلال الايام الاولى من هبة شعبية واسعة في مناطق محددة ووجود قناصة ومسلحين ملثمين مجهولي الهوية ليس وليد لحظة او صدفة، بالعكس كلياً، فقد جرت عملية تخطيط واسعة ومبرمجة اسس لها الغرب. هناك مجموعة من العوامل ساعدت الغرب على تحقيق غاياته كتوزيع الثروة والمافيات والفساد والتراكمات التاريخية التي تعود الى “حرب القرم The Crimean War”، لكن الانقسام الديموغرافي الحاد لنفس الاسباب التاريخية سهل عملية اللعب بالورقة الديموغرافية.
معضلة الانقسام الديموغرافي عميقة وخطيرة – غير القابلة للحل في ظل التدخلات الغربية والوعود الوهمية – على العكس، يمكن ان تشكل اساس لحرب اهلية مدمرة او حرب اوكرانية – روسية كما هدد رئيس الحكومة الانتقالية. كان على العقلاء ان ينصحوه “ارقص مع الثور الامريكي لكن لا تدوس على اطراف الدب الروسي.”
يمكن تقسيم اوكرانيا الى ثلاثة اقسام او ثلاث قوى – الشرق والغرب والقرم على البحر الاسود. القسم الشرقي يعود معظمه تاريخيا لروسيا وقد تم ضمه الى اوكرانيا عام 1954 فمن الطبيعي ان يطالب الاغلبية العظمى من سكان القسم العودة الى حضن الوطن الام، روسيا. القسم الغربي يميل نحو الانضمام الى الاتحاد الاوربي وحلف الاطلسي وهم في اغلبيتهم اوكرانيين وظاهرة تصاعد “التطرف القومي” واضحة. اما شبه جزيرة القرم التي تشكل أيضاً خط احمر لروسيا منقسمة على نفسها، الروس يؤيدون الانضمام الى روسيا والتتار المسلمون منقسمون، منهم يؤيد روسيا ومنهم يؤيد الغرب وهذه من اخطر الاوراق التي يمكن للغرب ان يلعب بها – توظيف الاسلام السعودي الوهابي من جديد لتجنيد “عرب اوكران” لمحاربة روسيا “الكافرة”. زيارة اوباما المقررة للسعودية هذا الشهر يمكن ان تخلط الاوراق وتشكل رافعة للسعودية ولدورها التخريبي. لكن، اذا قرر الغرب اللعب بهذه الورقة راقبوا الوضع في تركيا والقوقاز وجورجيا بالتحديد.
وفي نفس الوقت لا يمكن تجاهل خطوط امداد الغاز الطبيعي التي تمر عبر اوكرانيا الى اوربا كأهمية اقتصادية لروسيا. يدرك الغرب اهمية اوكرانيا لروسيا ويدرك ايضا انها اليد التي توجع روسيا. كتبت كاتي انغلهارت “اذا كنت حقاً تريد ان تعرف ما يجري في اوكرانيا، اتبع خطوط امداد الغاز الطبيعي”.
الاتفاقية التي من المتوقع ان يوقعها رئيس الحكومة الانتقالية مع صندوق النقد الدولي مقابل قرض بقيمة 15 ملياردولار تمنح شركة شيفرون الامريكية التحكم الكامل بكل خطوط امداد الغاز التي تمر عبر اوكرانيا. رئيس الحكومة الانتقالية اكد بشكل قاطع للغرب ان اوكرانيا ستلتزم بكل بنود الاتفاقية مع صندوق النقد الدولي. يمكن ان تكون الاتفاقية مقدمة لعرقلة امدادات الغاز من روسيا لدخول “الغاز الصخري” الامريكي سوق المنافسة في السوق الاوربي عام 2015 والغاز القطري الى تركيا عبر سوريا ومنها الى اوربا الذي يؤكد ان حروب خطوط الامداد تستعر.
كما اشارت صحيفة لوس انجلس تايمز الى التزام اخر قدمته الحكومة الانتقالية يتعلق بمنح منطقة قرب “خاركيف Kharkif” لاستضافة أنظمة الدفاع الصاروخية الامريكية وسرب من الطائرات المقاتلة الأمريكية لتوفير غطاء لمنشآت الدفاع الصاروخي. قرار خطير بهذا الحجم سيرد الروس عليه في مكان اخر يذكرنا بأزمة صواريخ كوبا.
لكل من روسيا والغرب حساباته الجيوسياسية. النفوذ الروسي في منطقة الشرق الاوسط يتقدم ونشهد مقابله تراجع في النفوذ الامريكي، فمن الممكن ان يحدث خلل في الوضع الراهن Status Quo. اوكرانيا تأتي ردا غربيا على سوريا للحفاظ على التوازن والوضع القائم. وان كان الوضع يبدو محيراً اكثر مما هو عليه خاصة ان هذه الحيرة في سياق من سيحكم الوضع – التركيبة الديموغرافية التي تتجه نحو حرب اهلية، او اتفاق دولي يعيد الاوضاع كما كانت مع احداث بعض التغييرات في ادارة الحكم كحل مؤقت لحين يتبلور حل شامل باشراف دولي، او القوة الفاعلة المسماة “الاوليغارشية” (ليس المقصود حكم الاقلية بل اصحاب الثروات) – المنافسة الجيوسياسية على اوكرانيا بدأت وبوادر بداية حرب باردة ثانية بدأت تطل برأسها لكنها لن تأخذ الحدة كما الحرب الباردة الاولى. الحرب الباردة الاولى كانت ثلاثية الابعاد – جيوسياسة وثقافية وايديولوجية، بينما الحرب الباردة الثانية ستأخذ طابع البعد الجيوسياسي، ومن رحمها سيولد نظام عالمي جديد متعدد الاقطاب او متعدد المحاور بديلا عن النظام العالمي الاحادي الذي استفردت به الولايات المتحدة.
التمرد على النظام العالمي الاحادي بدأ يأخذ منحى اوسع والتوجه نحو اقامة نظام عالمي جديد على حساب الحالي اصبح ممكناً وفرضية اندماج حقيقي بين مجموعة بريكس الاقتصادية ومنظمة شنغهاي الامنية يمكن ان تصبح امر واقع لا مفر منه. من الممكن ان يكون عام 2015 عام الفصل.
رضا حرب – باحث في الجغرافيا السياسية – موقع قناة العالم