معركة “بأس جنين”.. ماذا تبقّى من الخيارات الإسرائيلية؟
موقع قناة الميادين-
حسن لافي:
هل أعاد العدوان على جنين “السيادة” الإسرائيلية على المخيم أو أن نتائج معركة “بأس جنين” كرست واقع فقدان هذه “السيادة”، وتحول المخيم إلى تهديد دائم لا خيار لـ”إسرائيل” سوى التعايش معه؟
أنهى “الجيش” الإسرائيلي عمليته العسكرية الواسعة في مخيم جنين، التي أطلق عليها بعض قادته عملية “المنزل والحديقة”، والتي جنّد لها أكثر من ألف جندي من ألوية النخبة، في مقدمتهم لواء “الكوماندوز” الأكثر نخبوية، وقدم سلاح الجو الإسرائيلي غطاء جوياً لقوات النخبة البرية في هذه العملية التي لم تصل مساحة عملياتها العسكرية إلى نصف كيلومتر مربع.
وبعد 48 ساعة من القتال ضد كتيبة جنين التابعة لسرايا القدس وبقية فصائل المقاومة داخل مخيم جنين، وبعيداً من أذيال الخيبة العسكرية التي جرّتها خلفها هذه العملية العسكرية الأوسع في منطقة الضفة الغربية منذ عام 2002، فإنها لم تستطع تحقيق هدفها المركزي الذي أعلنه كل من المستوى السياسي والعسكري في “إسرائيل” مع انطلاقها، وهو القضاء على الحالة العسكرية التي أسّستها كتيبة جنين داخل المخيم.
بعدها، أتى تصريح رئيس أركان “جيش” الاحتلال هرتسي هليفي واعترافه بشكل مباشر بأن أقصى ما استطاعت تلك العملية تحقيقه، بحسب ادعائه، هو القدرة على الدخول إلى مخيم جنين متى احتاجوا إلى ذلك. بمعنى آخر، السعي إلى حرية العمل العسكري الاعتيادي لـ”الجيش” داخل المخيم، بعدما استطاعت كتيبة جنين حرمانه منه، وخصوصاً بعد “كمين النمر” الذي تم من خلاله تدمير 4 ناقلات مدرعة من نوع “نمير”؛ رأس حربة القوات البرية.
ولكن تصريح هليفي يحمل معنى سياسياً أهم وأكثر خطورة، يمكن أن ندرك من خلاله حقيقة الدافع الرئيس الذي جعل صانع القرار الأمني في “إسرائيل” يتخذ قرار العملية الموسعة على مخيم جنين، ألا وهو فقدان “السيادة” الإسرائيلية على المدينة وتحولها إلى ملاذ آمن للمقاومين ومركز انطلاق وانتشار للحالات العسكرية في كل مدن الضفة الغربية وقراها.
وهنا يفرض السؤال السياسي الأكثر استراتيجية نفسه: هل عملية “الحديقة والمنزل” أعادت السيادة الإسرائيلية على جنين أم أن نتائج معركة “بأس جنين” -كما أطلقت عليها الكتيبة- كرست واقع فقدان السيادة الإسرائيلية على المخيم وتحوله إلى تهديد دائم لا خيار لـ”إسرائيل” سوى التعايش معه؟
من المهم بداية معرفة أن عملية “المنزل والحديقة” العسكرية تختلف كلياً بالظرف السياسي والعسكري عن عملية “السور الواقي”؛ ففي عام 2002، كان مخيم جنين ومناطق “أ” في الضفة الغربية تقع تحت سيادة السلطة الفلسطينية بحسب اتفاقية أوسلو، وبالتالي كان هدف عملية “السور الواقي” هو إعادة احتلال تلك المناطق، بما فيها مخيم جنين، الذي كان يعتبر بؤرة مقاومة مركزية في منطقة شمال الضفة الغربية.
عملية “المنزل والحديقة” كانت تسعى لاستعادة “السيادة” على منطقة المخيم التي تعدّ في الأساس تحت السيادة الإسرائيلية، ولكن كتيبة جنين التابعة لسرايا القدس استطاعت أن تحول المخيم وأزقته إلى منطقة شبه محررة، من خلال عرقلة إمكانية دخول قوات “الجيش” الإسرائيلي من دون أن يدفع أثماناً باهظة.
هذا الفارق يأخذنا إلى تحليل النتائج السياسية لمعركة “بأس جنين”، التي يتلخّص أهمها في عدم القدرة على القضاء على الحالة العسكرية التي تقودها “كتيبة جنين” في المخيم.
كما أنَّ العملية لم تؤدِ إلى نتائج حاسمة أو إلى تغيير الواقع من الناحية الاستراتيجية، وهي كما وصفها المحلل العسكري آفي ييسخروف في عنوان مقاله في صحيفة “يديعوت أحرنوت” العبرية “قرص أكمول لمرض عضال”.
وقد قال: “لشدة الأسف، بعد وقت قصير من خروج الجيش الإسرائيلي من أزقة المخيم، المسلحون سيعودون إليها ويستأنفون العمليات من هناك”.. بمعنى أنَّ المعضلة الأمنية الإسرائيلية ما زالت موجودة، ويتطلب من صناع القرار الأمني والعسكري في “إسرائيل” البحث عن حلول أخرى.
وهنا، يبرز الخلل الجوهري في نوعية قيادة الحكومة الإسرائيلية الحالية التي يقودها بنيامين نتنياهو، ويشاركه فيها التيار الاستيطاني الديني المشيحاني بقيادة إيتمار بن غفير وبتسلئيل سيموتريتش، الذين أقروا تلك العملية الواسعة على مخيم جنين لخدمة أهداف داخلية حزبية أو مصلحية، ولإرضاء التيار اليميني الاستيطاني الذي بات أكبر قوة ناخبة لهم.
وقد أتى ذلك رغم إدراك المستوى العسكري بعدم جدوى تلك العملية من الناحية الاستراتيجية، لكنه وافق عليها تحت ضغط اللوبي الاستيطاني الديني المشيحاني، إضافةً إلى محاولة تغطية فشله في الحد من تطور القدرات العسكرية لكتيبة جنين، والذي ظهر جلياً في قدرة الكتيبة على تصنيع العبوات المتفجرة، واستخدام تكتيك الكمائن للقوات الإسرائيلية، وازدياد وتيرة عمليات إطلاق النار على المستوطنات المحاذية لجنين.
في المحصلة، لا يمتلك المستوى السياسي الحاكم في “إسرائيل” منذ أكثر من عقد من الزمن خيارات استراتيجية حقيقية للتعامل مع القضية الفلسطينية، وتتركز قراراته على تكتيكات إدارة الصراع.
لذا، إن خياراته بعد عملية “المنزل والحديقة” ستتمحور حول مجموعة من الخيارات المحدودة لمواجهة حالة المقاومة في الضفة الغربية، وخصوصاً مخيم جنين، أهمها:
– تعزيز القوة الأمنية لأجهزة السلطة الفلسطينية في مدن شمال الضفة الغربية من أجل استخدام تلك الأجهزة في إخماد حالة المقاومة هناك، بمعنى تحويلها إلى وكيل أمني للاحتلال، ولكن “إسرائيل” تتجاهل أن الكثير من أبناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية وقواعد وكوادر حركة فتح منخرطون في الفعل المقاوم ضد الاحتلال، بعد قتل الاستيطان والتهويد في الضفة حل الدولتين بالكامل، ناهيك بأنَّ الحالة الشعبية الحاضنة للمقاومة في الضفة ستنظر إلى السلطة في حال ذهابها إلى هذا الخيار على أنها سلطة فاقدة للشرعية الوطنية، ما سيعجّل في انهيارها بشكل تام، وليس العكس.
– أن تكرّر “إسرائيل” عملية “المنزل والحديقة” مرات أخرى، كلّما تطلبت الحاجة، كاستراتيجية أقرب إلى نظرية “جزّ العشب” العسكرية التي استخدمها “الجيش” الإسرائيلي مع المقاومة في غزة خلال السنوات الماضية، والتي أدت في نهاية المطاف إلى حالة تعرف باسم “جولات الصراع”، ليس من أجل القضاء على المقاومة، ولكن من أجل تحديد قواعد اشتباك متبادلة معها، وهو آخر ما يطمح الإسرائيلي إلى أن يتكرر في الضفة الغربية؛ الخاصرة الأمنية الرخوة له.
– العودة إلى استراتيجية “كاسر الأمواج” مرة أخرى، وهذا اعتراف واضح بأن “إسرائيل” باتت مستعدة للتعايش مع حالة المقاومة في الضفة الغربية، وأنَّ المقاومة العسكرية التي انطلقت من كتيبة جنين التابعة لسرايا القدس من قلب مخيم جنين غير قابلة للكسر، وتؤكّد تجذر كتيبة جنين وحالة المقاومة داخل وعي أبناء جنين وأهالي الضفة الغربية وقلبهم وإرادتهم.
وبناءً على الخيارات الإسرائيلية المتاحة، وبعد الفشل الذريع الذي مُنيت به العملية العسكرية الإسرائيلية على مخيم جنين، لم يعد للاحتلال، “جيشاً” وحكومةً ومستوطنين، إلا التعايش مع التهديد الأمني والعسكري التي تحدثه كتيبة جنين والحالة المقاومة، وما عليهم إلا انتظار مستقبل مفتوح على تطور المقاومة بقيادة كتيبة جنين في الضفة الغربية.