معالم لحركيّة جديدة في الشرق الأوسط
موقع قناة الميادين-
محمد سيف الدين:
حركية أو قوة دفع جديدة تشهدها المنطقة، محورها تبادل منافع ومكاسب بين دولها، وبين الأخيرة والقوى العالمية الساعية إلى شراكاتٍ موثوقة، في مقابل زيارة إملائية قاصرة عن إحداث التأثير المطلوب، يقوم بها رئيس أميركي متعثر في ولايته حتى الآن.
خلال أيام قليلة مرت من عمر الأسبوع الثالث من شهر تموز/يوليو، شهدت منطقة الشرق الأوسط نشاطاً دولياً وإقليمياً على أعلى المستويات، مثلت زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى الأراضي المحتلة، ثم إلى المملكة العربية السعودية، ركنه الأول، ثم قام ركنه الثاني على القمة الثلاثية في طهران بين قادة إيران وروسيا وتركيا، ليستكمل بالركن الثالث، من خلال توقيع “وثيقة مبادرة الشحن الآمن للحبوب والمواد الغذائية من الموانئ الأوكرانية” بمشاركة كلٍ من روسيا وأوكرانيا والأمم المتحدة وتركيا.
بايدن هنا
قبل أشهر منها، استبق الكيان الإسرائيلي زيارة بايدن بالإعلان عن 4 آلاف وحدة استيطانية جديدة. في “تل أبيب”، يدركون حاجة الرئيس الأميركي إليهم، وخصوصاً مع اقتراب موعد الانتخابات النصفية في الخريف المقبل، وتدهور مؤشرات شعبيته إلى أدنى مستوى لها، بموازاة أدائه المهزوز على مستويات مختلفة، إن كان في مواجهته مع الجمهوريين وبقاء تأثير معركته مع الرئيس السابق دونالد ترامب، وحضور فاعلية الأخير في خلفية المشهد النقيض الذي يقدمه بايدن في البيت الأبيض، أو بما يتعلق بالمؤشرات الاقتصادية المتراجعة ومغامرته الأطلسية التي تضع العالم على شفير انزلاقات اقتصادية وغذائية وطاقوية وعسكرية قد تتدحرج فيها الأحداث إلى قعر مواجهةٍ عالمية لا تحمد عقباها.
في الأراضي المحتلة، قدّم بايدن ما لم يسبقه إليه أسلافه من الرؤساء الديمقراطيين، إذ تجاهل إرث الرؤساء الديمقراطيين الذين لطالما ركزوا في زياراتهم على “حل الدولتين”، بصرف النظر عن التزامهم بالوصول إليه بصورةٍ متوازنة أو أداء دور وساطة نزيهة في سبيل ذلك.
على العكس من ذلك، بدا بايدن متساهلاً مع السياسات الاستيطانية، ومؤيداً لها أيضاً، وداعماً “لتفوق إسرائيل” في المنطقة، وهي العبارة التي أصبحت لازمةً من لوازم أدبيات السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط.
وبذلك، أفقد الرئيس الأميركي بلاده المزيد من رصيدها في قضايا المنطقة، ولا سيما في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وخصوصاً أنه يزور المنطقة بوضعية غير مريحة، لناحية قدرته على تحقيق المطالب التي يحملها لقادة الدول الحليفة له أو لناحية ما يحاول تدبيره للدول التي تناصبه الخصومة. في الحالتين، لم يشبه بايدن في زيارته الشرق أوسطية أياً من أسلافه الذين كانوا يضمنون نتائج زياراتهم قبل هبوط طائراتهم على مدارج مطارات حلفائهم.
ويواجه بايدن في الداخل الأميركي تصاعد مشاعر القلق التي لا بدّ من أنها ستنعكس في صناديق الاقتراع، على خلفية ارتفاع أسعار الوقود، وانتقال التوقعات الاقتصادية من الركود إلى الانكماش، بفعل مجموعة من العوامل التي لم تبدأ مع تداعيات الجائحة العالمية، ولن تنتهي بانعكاسات الحرب في أوكرانيا.
وتؤثر ملفات الشرق الأوسط في كتل مهمة من الناخبين، ولا سيما اليهود والعرب، وخصوصاً بعد تبلور إخفاق سياسة الانسحاب الأميركية من المنطقة في تحقيق أهدافها والحفاظ على مصالح واشنطن من دون التورط في صراعات كبرى.
ها هو الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة في الأزمة السورية تجسره دول أخرى عززت حضورها، ودفعت التأثير الأميركي إلى أدنى درجاته منذ بدء الأزمة السورية، ورست على اللاعبين الأساسيين الذين اجتمعوا في قمة طهران قبل أيام.
واقتصرت فاعلية بايدن في المنطقة بصورةٍ رئيسية على دعم حكومة يائير لابيد، الذي سيواجه استحقاقاً يهدد إعادته إلى منصبه في انتخابات الكنيست في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.
حضور ضعيف
في زيارته الخليجية، فشل بايدن في إظهار نفسه قائداً قوياً للعلاقة التحالفية مع الدول التي بدأت تتطلَّع إلى أدوارٍ ومواقف أكثر جرأة، تم التعبير عنها في مجموعة من المعطيات، أبرزها:
– إعلان وزير الخارجية الإماراتي أنور قرقاش أنَّ بلاده لن تدخل في محورٍ ضد إيران، ثم إلحاق هذا الموقف بتصريح آخر يؤكد صواب موقف دول المنطقة المتوازن من الأزمة الأوكرانية، بما لا يتوافق مع التوجيه الأميركي – الأطلسي.
– إعلان ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في قمة جدة للأمن والتنمية أن رفع بلاده مستوى إنتاجها من النفط إلى 13 مليون برميل نفط يومياً، وهو الحد الأقصى المستهدف من قبل المملكة، لن يتحقق الآن تحت أي ظرف، وتذكيره بأنَّ المملكة قررت الوصول إلى هذا الرقم بحلول 2027 فقط، الأمر الذي يعد خيبة أمل لبايدن، وفشلاً في أحد أبرز أسباب زيارته.
– سعي القوى الإقليمية المختلفة في المنطقة (إيران والسعودية ومصر) لدخول فضاءات جديدة غير أطلسية للتعاون وعقد الشراكات المزدوجة التي تنتمي إلى عالم الغد، بعيداً من توجيهات واشنطن بعزل الدول المخاصمة لها، وإعلان هذه الدول الثلاث حماستها لدخول مجموعة “بريكس”.
– إخفاق عزل روسيا وإيران، وانفتاح حلفاء الولايات المتحدة الإقليميين عليهما، وخصوصاً مع تنامي المؤشرات الإيجابية لاستعادة العلاقات العربية – الإيرانية في الخليج نشاطها الدبلوماسي.
– الإشارات السعودية المصوبة على السجلّ الأميركي لحقوق الإنسان، والتذكير بالسجون الأميركية صاحبة السمعة السيئة، مثل سجن أبو غريب.
– ضمور فكرة “الناتو العربي” وظهور المسار التطبيعي بصورةٍ ضعيفة واقعياً نسبةً إلى حجم التسويق الإعلامي الذي قُيّد له.
– خفوت فكرة الضربة العسكرية الأميركية أو الإسرائيلية لإيران، وثبوت عدم واقعيتها قياساً إلى حجم الانعكاسات الميدانية والسياسية الذي يمكن أن تسببه، فضلاً عن معاكسة الأوضاع المستجدة بفعل الأزمة الأوكرانية لهذا الاحتمال.
حركية جديدة
في موازاة جولة بايدن في المنطقة، كانت طهران تستقبل قمةً ثلاثية بين الرؤساء التركي والروسي والإيراني، وهم قادة الدول الراعية لمسار أستانة، والمعنية بصورةٍ متزايدة بالأزمة السورية من ناحية، وبملفات مشتركة عديدة من ناحية أخرى، من ضمنها أمن المنطقة الممتدة من شبه الجزيرة العربية جنوباً، وحتى شواطئ بحر قزوين، وامتداداً إلى الغرب، حيث شواطئ البحر الأسود المشتعلة اليوم على وقع الحرب في أوكرانيا.
لقد تمكّن القادة الثلاثة من إخراج صورةٍ ناجحة عن التعاون الإقليمي، وخصوصاً مع خروج مؤشرات تشير إلى تمكن الروس والإيرانيين من لجم اندفاعة إردوغان السورية الأخيرة وتحويل زخمها باتجاهات أخرى، منها ما تلا القمة من نشاط وساطة نجحت فيه تركيا بإتمام اتفاق إخراج الحبوب العالقة في الموانئ الأوكرانية إلى الأسواق العالمية.
كان هذا الاتفاق الأخير تعبيراً واضحاً عن تسليف طهران وموسكو أنقرةَ دوراً دبلوماسياً شديد الأهمية في هذه اللحظة، ليس بالنسبة إلى أوكرانيا والغرب فحسب، بل لبقية العالم أيضاً، الذي ينتظر انفراج الأزمة الأوكرانية لاستعادة سلاسل التوريد الغذائية الأوكرانية المصدر عافيتها. ومع أنَّ روسيا تتفوق على أوكرانيا كمصدر للحبوب، إلا أنَّ الإشارة الإيجابية بالسماح بإخراج الحبوب الأوكرانية تحديداً تعتبر إنجازاً في هذا التوقيت.
وجاء القصف الذي تعرّض له ميناء أوديسا الأوكراني، أبرز موانئ أوكرانيا الذي لا يزال تحت سلطة كييف، ليشير إلى أهمية اتفاق أنقرة، إذ كشف المتضررون وجوههم لمنع الاتفاق من الاكتمال وإكساب اللاعبين الموقعين عليه المشهد الذي أرادوه من التوقيع.
إذاً، حركية أو قوة دفع جديدة تشهدها المنطقة، محورها تبادل منافع ومكاسب بين دولها، وبين الأخيرة والقوى العالمية الساعية إلى شراكاتٍ موثوقة، في مقابل زيارة إملائية قاصرة عن إحداث التأثير المطلوب، يقوم بها رئيس أميركي متعثر في ولايته حتى الآن، ويقترب من استحقاقٍ مفصلي في ولايته الرئاسية، وهو في حال خسارته له قد لا يتحول إلى “بطةٍ عرجاء” فحسب، بل إنه سيتيح لمنافسيه العالميين والإقليميين تأكيد تحديهم له بصورةٍ حاسمة أيضاً.
إن الروس يدعونه إلى الإذعان في أوكرانيا، ويضغطون بشدة على كييف التي خسرت حتى الآن معظم مقومات قدرتها ووجودها كدولةٍ قوية، لتتحول إلى دولة محاصرة غير قادرة على إلزام حلفائها بشيء، في مقابل خسارتها بناها التحتية الأساسية التي تمثل معظم قدراتها.
ولا يوفر الإيرانيون أيضاً مناسبة لدعوة الأميركيين إلى ترك المنطقة لأهلها. وبين هذا وذاك، تبدو القوة الدافعة لأحداث المنطقة اليوم معاكسة لرغبة البيت الأبيض، وأكثر ميلاً إلى روسيا والقوى الإقليمية على ضفتي الصراع في المنطقة، الأمر الذي يعتبر جديداً، ويضيف معطى شديد الأهمية إلى حسابات مستقبل الشرق الأوسط.