مصير مسيحيي الشرق يُقلق عون ومُبادرته «الإنقاذيّة» لوقف نظريّة «إحزموا الحقائب»
صحيفة الديار اللبنانية ـ
ابراهيم ناصرالدين:
يدرك رئيس تكتل التغيير والإصلاح الجنرال ميشال عون ان مبادرته لاجراء تعديلات دستورية محدودة لاخراج المأزق الرئاسي والنيابي من «عنق الزجاجة» لن يبصر النور، لان الازمة الراهنة التي تعوق انتخاب رئيس جديد للجمهورية لا ترتبط بغياب الاليات او اختراع وسائل جديدة لاجرائها، وانما بقرار سياسي اقليمي ودولي بوضع هذا الاستحقاق في «الثلاجة» للمقايضة عليه في وقت لاحق، ومن يعرقل اجراء الانتخابات اليوم لن يوافق على مخارج مشابهة خصوصا انها تقدم الرئاسة الاولى على «طبق من ذهب» للجنرال، وهو أمر لن يحصل بالطبع، ولو اراد هؤلاء حصول هذا الامر فهم سيختارون الطريق الاسهل والاقل كلفة على المستوى السياسي والدستوري، ولكن هل يمكن وضع «مبادرة» الجنرال في خانة ملء الفراغ والوقت الضائع؟ وهل تأتي فقط في سياق «رمي الكرة» في ملعب الخصوم الذين يتهمونه بتعطيل انتخابات الرئاسة والقول لهم «انا قدمت مبادرتي فما انتم فاعلون»؟ ام ان للمبادرة ما هو اعمق ويرتبط مباشرة بالخطر الوجودي الذي يتهدد المسيحيين؟
اوساط سياسية مطلعة على اجواء الرابية، تعتقد ان عون يتعرض «لمظلومية» جديدة من قبل كل الذين انتقدوا مبادرته، فالقول انه أطلق رصاصة الرحمة على حواره مع رئيس تيار «المستقبل» رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، كلام «سطحي» يقوله جهلة لا يعرفون ان نجاح هذه العلاقة من عدمه غير مرتبط بطرح سياسي او دستوري، وانما بظروف اقليمية ودولية، لو توافرت لكان عون الان في قصر بعبدا. اما البحث في «جنس الملائكة» واتهام «الجنرال» بالاخلال بمبدأ الشراكة بين اللبنانيين والغاء المساواة بينهم في الحقوق والواجبات والحديث عن ناخب من الدرجة الأولى والآخر من الدرجة الثانية، فكله كلام خارج البحث الحقيقي والجدي لتلك المبادرة التي لو توافرت النيات «الحسنة» حولها لتداعت المكونات السياسية اللبنانية لدرسها وتعديلها لما يتناسب مع «الهواجس» المسيحية التي طرحها الجنرال، لكن طالما ان النية غير صافية فكل ما صدر من خصوم الجنرال يؤكد عدم الجهوزية لنقاش جدي يذلل الشعور «بالتهميش». اذا ما هو مبرر خطوة عون؟
الخلفيات لا تحتاج الى كثير من «العبقرية» لاكتشافها، وبحسب تلك الاوساط، فاذا كان بعض جمهور السنة في المنطقة اتخذوا من رفع شعار «المظلومية» غطاء لتغطية وتسهيل قيام «دولة داعش»، واعتماد استراتيجية بث الرعب ونشر فيديوهات قطع الرقاب وتحطيم التماثيل، والعودة إلى ما قبل أي تراث حضاري او انساني، فان «الجنرال» اراد تقديم نموذجا «حضاريا» يمكن من خلاله تغيير واقع الاجحاف اللاحق بالمسيحيين، في منطقة يصعب ان تعود بعد الأزمتين السورية والعراقية الى «ما قبل عصر داعش».
فثمة مخاوف جدية لدى الجنرال عون تقول الاوساط على مصير المسيحيين في المشرق العربي وليس في لبنان فقط، فقيام ظاهرة «داعش» كشف حالة من «فراغ القوة» في الإقليم نتيجة فشل جيوش جرارة في التغلب على مكوّنات متطرفة باتت تفرض الوقائع على الارض، وباتت تلقى قبولا فكريا عند شريحة واسعة في المنطقة تحت عنوان «مظلومية» اهل السنة. ويعرف «الجنرال» ان قيام دولة داعش يرسم تلقائيا حدود دويلات طائفية وعرقية في جوارها، وما يرسم من وقائع ميدانية لا يمكن إلا ان يشجع على تصدير هذا النموذج الى الإقليم، وهو ما يكفي لاثارة الرعب بالنظر الى «الفسيفساء» العرقية والايدولوجية التي شكلت دولا هشة او طارئة قد لا تصمد أمام رياح التقسيم التي تهب على الإقليم. خاصة ان هناك مسؤولين اصبحوا يروجون رسميا لاعتماد التقسيم كحل وحيد لتفادي الانفجار المذهبي في العراق والمنطقة وهي دعوات اذا ما نجحت ستكون على حساب المسيحيين اولا، فهل لاحظ احد في السيناريوهات التقسيمية المتداولة اي دور او وجود للمسيحيين في هذه الخرائط؟
بالطبع لا، فلم يبلغ مسامع الجنرال في الرابية ذكر للمسيحيين سوى ما ورد في «دراسة» بريطانية باتت تحظى باهتمام داخل اروقة الديبلوماسية في لندن، تتحدث عن مخارج للأزمة السورية، وتفيد خلاصات هذا المشروع بأن اتفاقية «سايكس- بيكو» قد باتت من الماضي ولا حل الا وفقا لنموذج جنوب آسيا في 1947 حين تمّ تقسيم الهند البريطانية، الخارجة في ذلك الوقت من حرب أهلية طاحنة، على أساس ديموغرافي ديني إلى دولتي باكستان والهند. والمقترح الحالي لسوريا هو قيام دولة علوية – مسيحية تمتد بين لبنان وتركيا، ودولة أخرى يحكمها السنة على الأراضي التي يسيطرون عليها.. وسألت الاوساط هل وحده «الجنرال» سمع بهذه المشاريع؟ وهل فات البعض الاطلاع على التقارير الاستخبارية الاسرائيلية التي تختصر المشهد بتقسيم سوريا إلى ثلاث دويلات، وتشكيل كانتونات كرديّة ودرزيّة وعلويّة؟ طبعا لا ذكر للمسيحيين على الاطلاق. والحل «وضّبوا الحقائب»؟
طبعا لا يمكن «للجنرال» ان يقف مكتوف الايدي ازاء مخاطر موجة جديدة من هجرة المسيحيين الخائفين على مصيرهم في لبنان والمنطقة، وهو يقدم اليوم اقتراحا لطمأنتهم، لكنه لن ينجح هذه المرة بسبب ثلاث نقاط ضعف «جوهرية» على حدّ قول مصادر تواجه مبادرته وكلها تتمحور حول غياب القوة الدافعة لتحقيقها، اي بمعنى آخر، هي خطة دون «اسنان»، فالمعطى الاول الذي يصيبها بالوهن يرتبط بالتوقيت الاقليمي والدولي المتوتر او المتفجر، فهكذا تعديل دستوري لا يمكن ان يولد بتوافق داخلي غير متوافر اصلا، وفي ظل الصراع المحتدم في المنطقة بين القوى التي ساهمت في ولادة اتفاق الطائف، يبدو متعذرا للغاية اذا لم يكن مستحيلا، الشروع في اعادة صياغة النظام اللبناني على اسس جديدة، ولو كان الحد الادنى من التوافق موجودا، لكان الاستحقاق الرئاسي قد تم في موعده.
اما نقطة الضعف الثانية، فتتعلق بغياب القدرة العملانية لدى «الجنرال» في المضي قدما في الدفاع عن مشروعه الجديد، ولا يبدو التيار الوطني الحر في صدد خوض معركة «كسر عضم» لفرض هذه المعادلة كشرط لاغي لاي عملية سياسية في البلاد، فهو لا يملك القدرة على ذلك، ويدرك ان الظروف الداخلية والخارجية لا تسمح لحلفائه بخوض معركته، ويعرف جيدا ان موازين القوى لا تسمح له بفرض شروطه على الاخرين، واي بحث جدي في اعادة رسم معالم النظام لن يحصل دون رضى كافة القوى الفاعلة وهو أمر غير متوفر اقله في المدى المنظور.
اما نقطة الضعف الجوهرية والمؤثرة، فلها علاقة بغياب الحد الادنى من التوافق المسيحي على هذه التعديلات، فالقوى المتخاصمة مع «الجنرال» تعمل بمبدأ «النكاية» معه، فهي ضد اي شيء يقترحه اكان «خيرا» للمسيحيين او يحمل الشرور، وبالنسبة لها كل ما يخرج من الرابية مرفوض شكلا ومضمونا الى يوم «القيامة»، هذه القاعدة باتت من الثوابت ويدركها «الجنرال» جيدا، وكان بامكانه تجاوز اعتراضات هؤلاء بناء على خلفية الخصومة السياسية معه، لكن موقف بكركي يبقى الاكثر حراجة وسلبية هو بمثابة «رصاصة الرحمة» التي اصابت المبادرة «واردتها»، فغياب التغطية الكنسية لمثل هذا الاقتراح، وعدم تبني الكاردينال بشارة الراعي لهكذا تعديلات، يفقدها عنوان الدفاع عن حقوق المسيحيين ويعيدها الى مربع «المصلحة» السياسية للتيار الوطني الحر. هذا ما حصل ابان طرح القانون الارثوذكسي، وهو سيناريو يتكرر اليوم مع الاقتراحات الجديدة لتعديل الدستور. ويبدو مرة جديدة ان المسيحيين سيدفعون ثمن تلك الرؤى الضيقة والخاطئة، وقريبا لن يكون هناك اي جدوى بالمطالبة بحقوق مكون غير موجود..