مصر وصندوق النقد.. جراح قديمة وجديدة
موقع العهد الإخباري-
أحمد فؤاد:
تحمل السنوات الجديدة معها، عادة، من الوعود أكثر مما تتحمله حقائق الحياة وحسابات الواقع والمنطق. لكننا إذا تغاضينا عن الأزمات العاصفة التي تضرب المنطقة العربية، وفي القلب منها مصر، بفعل ظروف دولية نقلت أزمات الاقتصاد إلى أبعاد جديدة تمامًا، وأفقدت الحكومات القدرة على الحل بأدواتها الداخلية فقط، فقد يبقى لنا من انتظار العام الجديد بعض الآمال، يحملها إلينا الإيمان بانفراجة ما تعيد العجلات إلى طريق سليم.
ورغم أن الأزمات تحمل ما تحمله من ضغوط قلق وتحديات قاسية أمام الناس، إلا أنها في الوقت ذاته، أكثر ما يفتح عيون الإنسان على ما حوله، ويحرره من سجن نفسه وظروف الواقع المرير، وتبعث في الروح وميض الأمل، إذا ما صاحب التفكير المنطقي الكثير جدًا من الإرادة والإصرار والرغبة الحقيقية في التغيير، خصوصًا مع استحكام الأزمة وانغلاق السبل إلى حل يقوم على المنهجية ذاتها التي خلقت المشكلة وأدارتها.
تقف مصر في نهاية العام الحالي 2022 أمام أزمتها الكبرى، ربما أعمق وأدنى نقطة يمكن أن تصل إليها، موازنة عاجزة وديون قد تخطت كل قدرة على تفكير أو ربط، وإدارة فاشلة بكل مقياس، بل لا نتجاوز لو قلنا إنها تبدع في الفشل وتخلق طرقًا جديدة فيه تفاجئنا في كل مرة، وإحساس عام بالمرارة الأليمة والضياع الكامل، ووضع اقتصادي على شفا الانهيار، ومؤسسات سيطرة مالية عالمية قد أحكمت في لف الحبل حول عنق البلد، وحين حلت اللحظة الحاسمة، تغيرت لغتها واختلفت لهجتها وتسارعت خطاها، لتشد الحبل الملفوف بكل قوة وعزيمة.
7 شهور كاملة قضتها الحكومة المصرية في مفاوضات شاقة مع صندوق النقد الدولي، للحصول على قرض جديد يستر الخرق المتسع في الموازنة المصرية، وفي النهاية حصلت مصر على موافقة الصندوق على مبلغ هزيل، 3 مليارات دولار فقط، ودفعة أكثر هزالًا نحو 347 مليون دولار، مقابل حزمة من الشروط التعجيزية، والتي لن تؤدي إلى نتيجة باستثناء المزيد والمزيد من الأزمات، والكثير جدًا من الضغوط الملقاة على عاتق الطبقات الأكثر فقرًا.
المؤلم أن بيان صندوق النقد الدولي بخصوص القرض الجديد جاء كاشفًا للمأساة التي تعاني منها البلد، والتي جاءت بدورها نتيجة منطقية – وحتمية – للتعاون مع الصندوق والسير على وصفاته التدميرية المنهكة، فالوضع الاقتصادي المصري متدهور، وبحسب البيان الرسمي الصادر من مجلس إدارة الصندوق في شهر كانون الأول الحالي: “إن الاقتصاد المصري به خلل واسع، والتحدي ليس الحرب القائمة بين روسيا وأوكرانيا”، وبالتالي فرض الصندوق شروطه والتي جاءت كما يلي: “تحرير مطلق لسعر صرف الجنيه مقابل الدولار، تقليص دور الجيش في الاقتصاد الوطني، استمرار بيع الوحدات الإنتاجية التابعة للقطاع العام والجيش للمستثمرين، ومن ضمنها البنوك وشركات البترول، وأخيرًا ضمن الصندوق لمصر الحصول على “مساعدات” من دول مجلس التعاون الخليجي.
الأكثر ألمًا من بيان الصندوق، ومن شروطه ووعوده، هي حقيقة أن مصر، وقد صارت ثاني أكبر دولة مدينة للصندوق بعد الأرجنتين، يتحتم عليها خلال الشهر الحالي أن تدفع للصندوق 318 مليون دولار، قيمة قسط تسهيل الصندوق الممدد الذي حصلت عليه كقرض من الصندوق في تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، بما يعني أن ما ستحصل عليه مصر –فعلًا- من الصندوق أقل قليلًا من 29 مليون دولار!
ومقابل هذا المبلغ التافه، وضعت أقدار البلد بشكل كامل تحت وصاية صندوق النقد الدولي، وتحولت الحكومة المصرية إلى أداة لتنفيذ وصايا الصندوق، متجردة من كل هوى وطني أو نازع كرامة، مقابل هذا المبلغ فقط وصلت نسب التضخم خلال شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي إلى 18.5% ارتفاعًا من نسبة 8% فقط خلال أول العام الجاري، وبما يفوق ارتفاعه في أية دولة أوروبية تصرخ من نيران الحرب الروسية الأوكرانية التي تدور بجوارها، وفوق كل شيء، لا نزال بانتظار قرار جديد بتعويم الجنيه المصري أمام الدولار، ليضيف المزيد من الملح على جراح المأساة الإنسانية القائمة حاليًا.
وبشكل عام، فإن أرقام التوقعات الصادرة عن البنك الدولي، وهو طرف ثالث فاعل في الشأن المصري مثله مثل صندوق النقد وحكام الخليج، حذّر من خطورة مديونيات الدول النامية منخفضة ومتوسطة الدخل على حد سواء على عملية التنمية، وشكك في قدراتها على سداد ما يترتب على ديونها الخارجية الهائلة من أقساط وفوائد، وبشأن مصر فقد نبه آخر تقرير منشور للبنك الدولي عن ارتفاع نسبة الديون الخارجية قصيرة الأجل من الديون من نسبة 9.9% في نهاية العام الماضي 2021 إلى 17.1% في منتصف العام الجاري 2022، وبالتالي فإن على مصر تدبير 42 مليار دولار لمواجهة التزاماتها خلال العام المالي 2022/2023، مقابل 26 مليارًا فقط في العام السابق.
ما تقوله قصة مصر مع صندوق النقد الدولي، هو إعادة ترديد الحكاية الأشهر عبر التاريخ الإنساني، وهي إنه كما كان التاريخ فصولًا من الصراع بين الإرادات وصفحات من النزاعات بين القوى، فإن من يرتضي الهوان فهو على عدوه أوهن، وأن حلم الإصلاح أو التنمية في غياب الثقة الشعبية المتبادلة بين الحاكم والمحكوم أشبه ما تكون بعملية غرس نصل حاد في جسد عليل، لتتحول الندوب المتخلفة عن جراح قديمة إلى تهتك في الأنسجة يعود به نزيف الدم سيالًا، وإذا بالأمة بهكذا حال، ملقاة على فراش المرض، عاجزة عن الفعل، غائبة عن الوعي.