مشهد سيريلانكا الأخير
موقع العهد الإخباري-
أحمد فؤاد:
استيقظنا صبيحة أول أيام عيد الأضحى المبارك على ضحية من نوع جديد، دولة أخرى انضمت إلى قائمة طويلة ـ وتزداد طولًا ـ من الدول الفاشلة، نجح هجوم عشرات آلاف المواطنين في اقتحام القصر الجمهوري في سيريلانكا، وإجبار رئيسها على الهرب بطائرته، ونقلت وسائل الإعلام الغربية صور اللاهين من المواطنين يسبحون في برك سباحة القصر الواسعة الفخمة.
انفجار الوضع في سيريلانكا لم يأت مفاجئاً ولم يحدث دون مقدمات منطقية، تجعل من مشهده الأخير صادمًا للعقول محيرًا للأفهام، فالدولة كلها سقطت ـ بفعل نصائح صندوق النقد الدولي وأوراق خبرائه ـ إلى هاوية من الفشل، وزادها التعامل الحكومي البائس اشتعالًا وشدد ضغطها على الطبقات الأفقر والأقل، حتى حانت لحظة الانفجار.
ومنذ أسابيع طويلة، بدأت أزمة سيريلانكا في الاشتعال تدريجيًا، بعد الإخفاق الكامل للحكومة والرئيس في تسيير دولاب العمل اليومي بالبلد، مع تراجع الاحتياطي النقدي الأجنبي إلى 28 مليون دولار فقط، والتوقف عن سداد الديون الخارجية، ثم العجز عن دفع المرتبات أو توفير السلع الغذائية والحيوية، مرورًا بانعدام استيراد المحروقات تمامًا، ونفاد كل الاحتياطيات الوطنية من السلع، وصولًا إلى إغلاق المتاجر أبوابها لانعدام المنتجات فيها.
لكن الأزمة في سيريلانكا، وفي غيرها من الدول التي سارت على الدرب الكئيب ذاته، لا تعود فقط للأسابيع الماضية، ولا حتى لشهور سابقة، حين قررت الصين أن تضع يدها على مرفأ حيوي قرب العاصمة كولمبو لمدة 99 عامًا، والحصول على إعفاءات ضريبية وميزات جمركية للشركات الصينية الضخمة العاملة في المنطقة داخل البلاد، ثم تأجير ميناء “هامبانتوتا” بعد فشل حكومة سيريلانكا في دفع قرض يبلغ 1.5 مليار دولار مستحق للصين، عن عمليات تشييد الميناء ذاته!
البداية بالتأكيد ليست سياسة متهورة أو عاجزة تم اللجوء إليها خلال الشهور والسنوات الأخيرة، وحتمًا فإن الحكومة الحالية لا تتحمل بأجهزتها وسياساتها سوى قدرًا يناسب ما اقترفته من مسؤولية، لكن الإجابة بالتحديد تكمن في كلمات قليلة، انطلقت على لسان سماحة السيد حسن نصر الله، الأمين، المؤذن بالحق وصاحب الوعد الصادق، خلال تعليقه على طريقة عمل الحكومات بمواجهة الأزمات حين لخصه الأمر كله في بضع كلمات ـ وما أثمنها ـ “إن فقدان الأمن الاجتماعي أخطر من الحرب الأهلية”.
بالطبع فإن معرفة اللحظة الأولى للانفجار السيريلانكي أيسر من معضلة الدجاجة أم البيضة الفلسفية الصعبة، فإن جذر كل أزمة اقتصادية أو مالية على ظهر الكوكب، يعود خيطه الأول إلى نشأة النظام المالي العالمي القائم، والذي تم بأشهر اجتماع في التاريخ الإنساني المعروف، مؤتمر النقد الدولي بولاية نيوهامبشير الأميركية، خلال الشهور الأخيرة للحرب العالمية الثانية، والمعروف أكثر باسمه المتخصر “بريتون وودز”.
خرج من الحرب العالمية الثانية عملاقين، لكن قامة أحدهما ووزنه فاقت الآخر بمراحل بعيدة للغاية، كانت مدن الاتحاد السوفياتي أطلالًا ينعق فيها البوم وتجد فيها الحيوانات الجثث التي لا تنتهي، بعد معارك مليونية طاحنة في غالب مدنها الكبرى، بداية من موسكو إلى سيفاستوبول وستالينغراد ولينينغراد وخاركوف وكييف، وكانت القرى على امتداد البصر حقولَا من الحرائق وأكداسًا من الآليات العسكرية المدمرة، وكان التعافي هو الأولوية ولا غيره، وفوق روسيا، كانت أوروبا هي الأخرى لا تزال تحاول محو آثار الدم والموت من شوارع عواصمها، لندن، وارسو، برلين، بروكسل، براغ، وغيرها من المدن التي عاشت لسنوات ست تحت قصف وحشي لا يرحم، يريد فوق السيطرة إثبات القوة والجبروت، وبث اليأس في نفوس المدافعين عنها.
بينما خرجت الولايات المتحدة وهي المنتصرة الحقيقية والكبرى، من هذه الحرب الكونية، وفوق كل شيء، كان سلاحها النووي عنوانًا وإلهًا متجسدًا للقوة الفتية الجديدة، قوة قاهرة فوق أية قوة، لا يجرؤ أحد ـ ولا يريد ـ مواجهتها أو مضاهاتها، وكانت مصانعها البعيدة عن مدى طائرات دول المحور تعمل على مدار الساعة وطول الوقت، لتوفر الإنتاج اللازم للمجهود الحربي للحلفاء، وفي ونهاية الحرب كانت نتيجة طبيعية أن تستحوذ واشنطن على 45% من حجم الإنتاج العالمي كله، بشكل لم يسبق لقوة منفردة أن قامت به عبر التاريخ.
وقبل الإنتاج المادي، المتوفر بكثرة غير اعتيادية والقادر على توفير الإمداد في أي وقت، والقوات العسكرية المنتشرة في كل قارات العالم وعبر محيطاته، كان نظامها الاقتصادي هو الأمل للحكومات والشعوب، في آن، وصداقة نظامها السياسي هي المطلوب، وأرضها هي الحلم الذي يأوي إليه جياع الحرية والرفاهية، وعملتها ـ الدولارـ هي تجسيد لهذا كله.
وفي هذا الاجتماع الخطير، وضعت الولايات المتحدة أسس سيطرتها الاقتصادية والمالية على كل العالم، بتأسيس صندوق النقد والبنك الدوليين، الثاني يعني بتمويل مشروعات تنموية عملاقة، قد لا تستطيع الدول ذات الدخل المنخفض تحملها، لكن الولايات المتحدة تحمل الفيتو على القرارات التمويلية بفعل حصتها الأكبر في حصة التأسيس، كما حدث في حكاية بناء السد العالي بمصر، بينما يعد صندوق النقد الدولي هو الأداة الأخطر بالنسبة للدول الصغيرة.
لا تتمثل أهمية صندوق النقد الدولي في قيمة ما يقدمه من قروض، كما يعتقد البعض، بل في أن قروضه ـ بحد ذاتها ـ تمثل شهادة حسن سير وسلوك مالي للدول التي تواجه أزمات اقتصادية، وبالتالي فإنها الورقة المطلوبة للاقتراض من أسواق السندات والمال العالمية.
ويباشر صندوق النقد الدولي مهامه في تدمير الدول المستهدفة عبر بعثات مراقبة دائمة أو مؤقتة، تدرس حالة الدولة المالية، ومن ثم تقدم توصياتها ـ أوامرها بشكل أدق ـ إلى المسؤولين عن الدولة، الذين يعيدون تقديمها، في العلن، باعتبارها حزمة تعهدات مالية لإدارة صندوق النقد الدولي، والذي يحيل الأمر إلى مجلس إدارته للبت النهائي في شروط وضعها هو!
وحين حانت لحظة الحريق، لم تر الجماهير الثائرة في البلد المنكوب أملًا سوى في الفوضى وموقفًا وطنيًا سوى التمزيق وحرق كل ما طالته يداها، فاستمرار النظام الحاكم بشكله وسياساته الحالية لن يجلب سوى المزيد من الدمار والمعاناة، وبقاءه لن يترجم إلا في مزيد من العجز والديون وبيع الأصول الوطنية أو رهنها للدائنين الأجانب، ولم تنجح موافقة الرئيس السيريلانكي غوتابايا راجابكسا في وقف نيران الغضب، وإنما فقط زادت من تصميم الناس على كسر كل ما يمثله هذا النظام.
كسر النظام الحاكم الغبي، في براعة لا يحسد عليها، كل معنى للثقة بين المواطن وبلده، وتفنن في البلادة والغباء، وذهب إلى أبعد مدى ممكن في معاندة جماهيره والاستمتاع بحرمان أغلبيتهم من حياة آدمية، وكأنه لا يحمل شعارًا سوى القرار الخاطئ في الوقت الخاطئ وبأبشع سبل التنفيذ وأشقها على الغالبية العظمى من المواطنين.
وقعت سيرلانكا ضحية عجز حكومتها، وجشع النظام الدولي وعلى رأسه الشيطان الأكبر أميركا، ونخبة ضالة مضلة، لا ترى في الغرب إلا قبلة وملتجًأ وحلًا، فكانت النتيجة نيران مشتعلة على امتداد الوطن، بلد سقط كله على بعضه دون حرب وبلا رصاصة واحدة، ودون أن تجد في نظامها السياسي أدنى قدرة على المقاومة أو رغبة في المواجهة، فر الجميع وتركوا البلد نهبًا لقرار جديد، قد يأتي حين تقرر واشنطن النظر هناك.