مشروع إسرائيل المنسي لتفتيت العالم العربي

natanyaho

صحيفة السفير اللبنانية ـ
فهمى هويدى:

   القلق على المصير العربي في محله تماما، لكننا نخطئ كثيرا إذا حصرنا التحديات في النفوذ الإيراني ومخاطر الإرهاب، وتجاهلنا دور إسرائيل في مخطط التفتيت الذي تنفذه منذ نصف قرن.

(1)

هذا القلق أصبح يشكل قاسما مشتركا بين أغلب تعليقات وتحليلات الكُتّاب العرب في الآونة الأخيرة؛ من حديث عن الحدود التي يعاد رسمها بالدم، إلى تحذير من ان المستقبل في المنطقة يراد له ان يصنع على أيدي غير العرب، مرورا بمحاولة رصد الأسباب الكامنة وراء تعدد الهزائم العربية ودور الدولة والقبيلة في ذلك. وليس ذلك مستغربا، لأن مختلف الشواهد تدل على ان ثمة خرائط جديدة ترسم للمنطقة في ضوء الانهيارات التي حدثت لبعض الأنظمة والتصدعات التي عانت منها أنظمة أخرى، والتوترات التي أطلت برأسها في فضاءات أنظمة ثالثة. وحين تم الاتفاق بين واشنطن ومعها الدول الكبرى وبين طهران، فإن الجميع أدركوا أن أوان الدخول في حقبة جديدة قد حل، وان الحديث عن المستقبل ومخاوفه لم يعد ثرثرة مثقفين أو توجسات سياسيين، ولكنه صار ضرورة ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد، لأن قطار التغيير انطلق وبات من العسير وقف اندفاعه.

استوقفتني في هذا الصدد مقالة لوزير خارجية مصر الأسبق السفير نبيل فهمي نشرتها جريدة الأهرام في 22/7 تحت عنوان «الشرق الأوسط الجديد والاتفاق النووي الإيراني والعرب». إذ استهلها بالإشارة إلى اتصال أجراه معه في العام 2004 (حين كان سفيرا لمصر في واشنطن) مستشار الأمن القومي الأميركي، واقترح عليه ان تشارك مصر في اجتماع قمة حول انشاء شرق أوسط جديد يشمل الدول العربية ويمتد حتى باكستان وأفغانستان (وهو ما اعتذر عنه آنذاك). وفى ربيع العام 2015 حدثه مسؤول إيراني مقرب من أصحاب القرار عن انهم في طهران لهم نظرة أخرى للشرق الأوسط الجديد مختلفة عما يرونه في مصر، فليس صحيحا في رأيهم ان المنطقة جوهرها عربي، لأن مرجعية المواطن العادي لم تعد القومية العربية، فضلا عن ان العالم العربي منقسم على نفسه والثقل السياسي والأمني والاقتصادي فيه ليس بين أيدٍ عربية. وحين وضع الأمران جنبا إلى جنب خلص إلى ان التفكيرين الأميركي والإيراني ينطلقان من رؤية لمستقبل المنطقة بأيدٍ غير عربية. ثم تساءل عما إذا كانت تلك مؤامرة كبرى أم انه مجرد توافق مصالح بين أيدٍ غير عربية؟ وهو إذ يجيب على السؤال، فإنه طرح أفكارا عدة محورها كيف يستعيد العالم العربي زمام المبادرة، كي يصبح فاعلا وليس مفعولا به.

(2)

ملاحظتي الأساسية على مقالة السفير نبيل فهمي انها وقفت عند استعراض الموقفين الأميركي والإيراني، لكنها لم تشر إلى التفكير الإسرائيلي الأخطر في الموضوع، ذلك ان الأميركيين والإيرانيين إذا كانوا قد طرحوا أفكارا عن بُعد وكانت لهم تطلعات تتعلق بنفوذ كل منهما، فإن مشروع الإسرائيليين الموجودين في قلب المنطقة تم اختبار أفكاره، ونفذ بعضها على أرض الواقع، والبعض الآخر جارٍ تنفيذه في صمت وبعيدا عن الأعين.

من وجهة النظر الإسرائيلية، فالمنطقة العربية لا تشكل وحدة ثقافية وحضارية واحدة كما يعتقد العرب. وهي ليست إلا مجموعة من الأقليات التي لا يوجد تاريخ يجمعها. ومن ثم يصبح التاريخ الحقيقي هو تاريخ كل أقلية على حدة. والغاية من ذلك التحليل تتمثل في تحقيق هدفين: الأول رفض مفهوم القومية العربية ومقاومة فكرة الوحدة العربية. ذلك أن التصور الإسرائيلي يعتبر ان القومية العربية فكرة يحيط بها الغموض، ان لم تكن غير ذات موضوع على الاطلاق.

أما الهدف الثاني من الترويج لفكرة تعدد الأقليات والهويات في العالم العربي، فهو تبرير شرعية الوجود الإسرائيلي. ذلك ان المنطقة وفق ذلك التصور تضم خليطا من القوميات والشـعوب واللغات. وتصور قيام وحدة بينها هو ضرب من الوهم والخيال. والنتيجة المنطقية المترتبة على ذلك تعني أن يكون لكل قومية في المنطقة كيانها الخاص، وبذلك تكتسب إسرائيل شرعيتها باعتبارها إحدى الدول القومية التي تعيش على أرضها.

هذا التوجه في التفكير الإسرائيلي دفع إسرائيل إلى تبني استراتيجية تشجيع مناطق الأقليات في المنطقة، وطرحها بين حين وآخر لفكرة إقامة دويلات درزية أو مارونية على حدود إسرائيل لتكون بمثابة مناطق أمن تكسب إسرائيل الاطمئنان وتشكل حاجزا ماديا ومعنويا يفصل بينها وبين الدول العربية. وهو ما من شأنه ان يشجع الأقليات الأخرى على ان تسير على ذلك الدرب، ويحفز الأكراد في العراق والأفريكان في جنوب السودان وموريتانيا على الاستقلال.

كتابات ابا ايبان السياسي الصهيوني ووزير خارجية إسرائيل التي نشرت تحت عنوان «صوت إسرائيل» تعد أفضل تعبير عن الفكرة، ذلك انه اعترض على الافتراض القائل بأن الشرق الأوسط يمثل وحدة ثقافية، وان على إسرائيل ان تتكامل مع تلك الوحدة. وذكر ان العرب عاشوا دائما في فرقة عن بعضهم، وان فترات الوحدة القسرية كانت تتم بقوة السلاح. من ثم فإن التجزئة السياسية لم يحدثها الاستعمار، وان الروابط الثقافية التي تجمع البلاد العربية لا يمكن ان تضع الأساس للوحدة السياسية والتنظيمية.

الفقرات السابقة كلها ليست لي، ولكنها اقتباس مطول منقول حرفيا عن كتاب صادر في تل أبيب العام 2003 عن «مركز دايان لأبحاث الشرق الأوسط وافريقيا»، وكتاب العميد المتقاعد موشيه فرجي، وعنوانه هو «إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان».

(3)

هذه الأفكار تم اختبارها في ثلاث تجارب في ما هو معلن حتى الآن على الأقل، هي:

] أقامت إسرائيل علاقات وثيقة مع قيادات الموارنة في لبنان، مستثمرة في ذلك علاقات التوتر التاريخية بينهم وبين المسلمين السنة. وثمة دراسات متعددة أرّخت لتلك العلاقة الإسرائيلية واللبنانية. منها دراسات الأستاذ صقر أبو فخر عن الدور الذي قام به الاكليروس الماروني في التواصل مع الإسرائيليين، وكتاب كريستين شولز عن الديبلوماسية الإسرائيلية السرية في لبنان. وفي كتاب الان مينارغ عن أسرار حرب لبنان نص رسالة بعث بها إلى مناحيم بيغين رئيس وزراء إسرائيل كميل شمعون رئيس «حزب الوطنيين الأحرار» شكا فيها من ان الفرنسيين حين أقاموا لبنان الكبير ضموا إلى الموارنة الأراضي المأهولة بالمسلمين، «وكان هؤلاء سببا في جميع العلل والشرور».

الشاهد ان تواصل الإسرائيليين مع بعض شرائح الموارنة دفع الأخيرين إلى إقامة دولة لبنان الحر وحكومتها العام 1979. وشكل هؤلاء ما سمي بـ «جيش لبنان الجنوبي»، الذى قاده سعد حداد ومن بعده انطوان لحد. وكان للأحزاب المارونية الثلاثة التي شكلت الجبهة اللبنانية دورها في الترحيب بالاجتياح الإسرائيلي في لبنان العام 1982. إلا أن مشروع دولة الموارنة فشل وانهار بعد انسحاب الإسرائيليين من لبنان.

] التجربة الإسرائيلية الثانية كانت مع المتمردين في جنوب السودان، وقد تتبع كتاب العميد موشيه فرجي تلك العلاقة التي بدأ الإسرائيليون في نسجها في العام 1958، واستهدفت دعم التمرد الجنوبي وإضعاف السودان للضغط على مصر واختزان القارة الأفريقية، وشمل ذلك الدعم كل المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية، حيث وفرت إسرائيل الخبرات والسلاح والأموال وكل ما احتاجته حركة التمرد لتحدي حكومة الخرطوم وتثبيت أقدامها على الأرض، الأمر الذى انتهى بانفصال الجنوب وإعلان استقلاله العام 2011.

] التجربة الثالثة مع الأكراد في شمال العراق. ذلك ان زعماء الأكراد في نضالهم ضد نظام صدام حسين وضد شاه إيران قبل الثورة، كانوا يتلمسون الدعم من أي مصدر، الأمر الذى سارعت إسرائيل إلى تلبيته فقدمت لأكراد العراق الكثير من المساعدات التي لم تعلن تفاصيلها، لكنها انتهت بأن أصبح لإسرائيل حضور استخباراتي قوي في شمال العراق. وهذا الموقع له أهميته الاستراتيجية المهمة لأنه اتاح للإسرائيليين امكانية الاقتراب مما يحدث في العراق وسوريا وإيران وتركيا. ولم يعد سرا ان كردستان قطعت شوطا بعيدا في سعيها للاستقلال، الذي أصبح الآن مطلبا معلنا من جانب المثقفين والسياســـيين والأكراد. وبالتالي فلم يعد السؤال المطروح الآن هو هل يعلنون استقلالهم أم لا، ولكنه متى يتم ذلك.

(4)

نبالغ كثيرا إذا قلنا ان إسرائيل فعلت من جانبها كل ذلك، لأن الأصح والأصوب انها ساهمت في صنعه مستفيدة من ظروف داخلية مواتية في كل قطر. وهو ما يدعونا إلى القول بأن عملية تفتيت العالم العربي والإفادة من تنوع كياناته وتعدد الأقليات فيه تنطلق من استراتيجية إسرائيلية واضحة المعالم منذ خمسينيات القرن الماضي. وللأسف، فإن الدور الإسرائيلي في الخرائط الجديدة التي ترسم للمنطقة لم يأخذ حقه من الانتباه والدراسة؛ ذلك اننا نرى تركيزا شديدا على طموحات الإيرانيين ومخططات جماعة «داعش» الإرهابية، كما نلمس تجاهلا وسكوتا على مساعي الإسرائيليين الذين أصبحوا يعتبرون أنفسهم جزءا من معسكر الحرب ضد الإرهاب (قدموا إلى الأردن 16 طائرة هليكوبتر لهذا الغرض) في حين يمارسون في فلسطين كل ما يمكن تخيله من مظاهر الإرهاب والقمع.

لست أدعو إلى تجاهل الدور الإيراني ولا الكف عن مقاومة الإرهابيين، لكني أتمنى الانتباه إلى ثلاثة أمور: الأول توفير رؤية عربية واضحة للتــــحديات التي تواجه الأمة من حيث أولوياتها وطبيعتها. الثاني ان نظل على وعي كاف بالمخططات الإسرائيلية التي ما برحت تسعى إلى تفكـــيك الـعالم العربي وتفتيته. أما الأمر الثالث والأهم، فهو ان مخططات التفتيت التي ترسم تراهن على الشـــروخ والتشققات الحاصلة في كل قطر عربي، ولذلك فإن الوعي بتلك المخططات ينبغي أن يستصحب اهتماما بحصانات الداخل، ذلك ان مخططات التفتيت لا يتحقق لها النجاح إلا في حال هشاشة المجتمعات وقابليتها للتفتيت.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.