مستقبل السياسة الخارجية الأميركية تجاه المنظومة الدولية والشرق الأوسط
جريدة البناء اللبنانية-
بتول قصير:
يقول كريستوفر موت الكاتب الأميركي المتخصّص في العلاقات الدولية، وهو مؤلف كتاب «الإمبراطورية بلا شكل: تاريخ قصير للدبلوماسية والحرب في آسيا الوسطى»، إلى الاعتقاد بأنّ «منطقة الشرق الأوسط ليست جائزة يجب أن نخشى انتزاعها من قبل الآخرين؛ بل هي عبء يجب أن نرغب في أن يتحمّله أسوأ أعدائنا».
لم تعد السياسة الأميركية في الشرق الأوسط على النحو التقليدي الذي عُرفت به لعقود سابقة، إذ يتضح لمن يراقب التطورات المستجدة، انّ ثمة متغيّرات يسهل رصدها في الذهنية السياسية للعلاقات الخارجية الأميركية على المستوى الدولي بشكل عام، وتجاه الشرق الأوسط على نحو خاص. إلا أنّ هذه المتغيّرات لا يمكن التعويل على مصداقيتها، كما لا يمكن التعامل معها على نحو مطمئن، فهي تحتمل الزيف والوقتية كما تحتمل الصدق والديمومة.
تعتمد الإدارة الأميركية خاصية إعادة ترتيب الأوراق لكلّ مرحلة، كرسم السياسات الخارجية والداخلية، الى مسألة تنظيم العلاقات وتحديد الاولويات، وأحد معالمها الواضحة تمثلت بأنها تجاوزت الوسائل التقليدية كالحروب المباشرة، واعتمادها وسائل (استخبارية، فكرية، تكنولوجية) والتي تصنّف على أنها فتاكة جداً مقارنة بالأسلحة العسكرية والحربية، اذ انها تؤتي ثمارها المرجوّة بأقلّ الخسائر مع أضرار اكبر، فكانت سياسة أوباما الشرق أوسطية تتحاشى لعب دور عسكري، ووُصفت بأنها أقرب الى الدبلوماسية على عكس ما كانت عليه في الحقبة التي تولاها جورج بوش الأب والإبن، إلا انّ مسار السياسة الخارجية للولايات المتحدة في عهد أوباما دون إطار واضح لملفات وقضايا إقليمية من العراق الى ليبيا والعلاقة مع الخليج العربي، بما فيها الملف النووي الايراني. بينما أحدثت سياسة دونالد ترامب في الشرق الأوسط تغيّراً جلياً مقارنة بسلفه باراك أوباما، معتمداً في تحركاته على محدّدات داخلية وخارجية واستراتيجية تحقق مصلحة الولايات المتحدة الأميركية، وفقاً لشعار «أميركا أولاً»، سعى من خلالها دونالد ترامب إلى تصفية القضية الفلسطينية ودعم «إسرائيل» بإعلان ما يسمى «صفقة القرن»، وإلغاء الاتفاق النووي الإيراني، وتجنّب الاستمرار في «بناء الأمة» بالخارج أو ما يسمّى «الربيع العربي»، وعارض بشدة التدخل والفوضى في المنطقة التي أدّت إليها سياسات سلفه باراك أوباما. إلا أن عهد الرئيس بايدن اتخذ اتجاهاً معاكساً تماماً لسلفه ترامب في المنطقة، حيث تقوم هذه السياسة على الاحتواء والضغط الناعم واستخدام مصطلحات دبلوماسية.
وبما أنّ الشرق الأوسط أصبح ساحة معركة حاسمة في المنافسة العالمية، خصوصاً في موضوع النفط والغاز، الأمر الذي أدّى الى إدراك رؤساء الولايات المتحدة أنّ أمن الدول العربية في الخليج له أهمية قصوى بالنسبة لأميركا. وبذلك حدّدت الأخيرة دورها في حماية صادرات النفط الخليجي. بالإضافة الى تركيز الولايات المتحدة على أمن «إسرائيل».
نلمس ذلك من خلال توجهات السياسة الأميركية، آخرها زيارة الرئيس بايدن للمنطقة في تموز الفائت، والتي كان من أهمّ أهدافها أمن «إسرائيل».
الأمر الغير قابل للشك انّ سطوة الولايات المتحدة قد تراجعت في الشرق الأوسط، كما أنّ قدرة القوى والأقطاب الدولية المنافسة لواشنطن تملك من المقومات الكثير مما يؤهّلها للعب دور فاعل وملء فراغ القوى العالمية الأولى.
وصحيح أنّ الولايات المتحدة ليست سعيدة بتضاؤل نفوذها القديم في المنطقة، لكنها أيضاً لا تبدو مصرّة على البقاء أو تكبّد معاناته، بل إنّ البعض يعتقد أنها لا تمانع من دخول روسيا والصين نحو المنطقة، لسبب بسيط وهو أنّ الإدارة الأميركية، قد ترى في النزاعات العرقية والطائفية والرمال المتحركة في الشرق، بيئة مثالية لاستنزاف منافسيها الدوليين، الصين وروسيا، كما حصل مع الأخيرة وكيفية جرّها الى مستنقع أوكرانيا، ومحاولات أميركا الانتقال بالصراع بين الصين وتايوان. وحتى لو افترضنا أنَّ الولايات المتحدة الأميركية تراجعت في قوّتها، فإنّ هذا الافتراض لا يعني أنها أصبحت في موقع ضعيف لا يمكّنها من المبادرة أو التأثير الفاعل في مسارات العلاقات الدولية. فالولايات المتحدة دائماً ما تلجأ إلى الخطط البديلة إذ انها تملك من الخيارات التي تسمح لها بتحقيق مآربها وأهدافها.
أخيراً، يبدو انّ الولايات المتحدة تتجه لتطوير علاقات التعاون مع حلفائها التقليديين، فهذه الإدارة مهتمّة بكسب الحلفاء، والعمل بالتعاون معهم بقدر الإمكان. غير أنّ هذه العلاقة لن تكون سهلة طوال الوقت، والسبب في ذلك هو الضغوط الآتية من الجناح اليساري صاحب النفوذ المتزايد في الحزب الديمقراطي، والذي بدأ في ممارسة الضغوط لدفع إدارة بايدن لتبني مواقف متشدّدة ضدّ الحكومات التي لا تتفق مع نموذجهم للديمقراطية وحقوق الإنسان. لهذا فإنّ إدارة بايدن ستحاول الجمع بين المتناقضات الناتجة عن ضرورات إرضاء المطالب الديمقراطية والحقوقية الداخلية، وضرورات العمل مع الحلفاء الإقليميين. واللافت في هذه التطورات الشرق أوسطية هي قدرة الدول العربية على استثمار أوراق القوّة في علاقاتها مع الولايات المتحدة، فللمرّة الأولى في تاريخ علاقات المنطقة الدولية توضع الطاقة والموقع الإستراتيجي والقدرات المالية على طاولة التفاوض، الأمر الذي يمنح العرب قدرة تساومية أكبر لتحقيق أهدافهم.