مرفأ بيروت… وفوضى المعلومات!
صحيفة البناء اللبنانية ـ
د. محمد سيّد أحمد:
تعدّ المعلومات الركيزة الأساسية لأيّ عملية تحليل سياسي، بل وأيّ بحث علمي يسعى للوصول لنتائج واقعية حول الظاهرة المدروسة، والمعلومات هي المقدمة الأولى لأيّ عملية تخطيط لاتخاذ القرار على كافة المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، بل والعسكرية أيضاً فلا حرب بدون معلومات. وبالطبع تعدّ المعلومات هي نقطة الانطلاق لكلّ عمليات تشكيل الوعي لدى الرأي العام، لذلك إذا كانت المعلومات دقيقة ومحددة كان ما يتبعها من تحليل أو نتائج أو تخطيط أو قرار أو وعي صائب وسليم إلى حدّ كبير، والعكس صحيح إذا كانت المعلومات غير دقيقة وغير محدّدة فما يتبعها حتماً سيكون غير سليم.
وفي هذا السياق كان يُحكم على كفاءة أجهزة الاستخبارات في العالم من واقع دقة معلوماتها التي بناءً عليها يتمّ اتخاذ القرارات الهامة المتعلقة بسياسات الدولة الخارجية في مجال علاقاتها الدولية سواء في أوقات السلم أو الحرب، وفي مجال البحث العلمي فإنّ أحد أهمّ مسلمات المنهج العلمي تقول إنه لا يمكن تفسير أيّ ظاهرة من ظاهرات الكون الطبيعية أو الإنسانية إلا من خلال الأحداث السابقة على حدوثها من خلال المعلومات التي يتمّ الحصول عليها ويتمّ تسجيلها بدقة. وفي مجال التحليل السياسي لا يمكن التوصل إلى توقعات ورسم سيناريوات مستقبلية سليمة إلا من خلال معلومات دقيقة ومحدّدة حول الظاهرة أو الحدث محلّ التحليل.
وفي الماضي كانت مصادر المعلومات محدودة ومحدّدة سواء في المجال العسكري أو العلمي أو السياسي، أما الآن فقد تعدّدت مصادر المعلومات بشكل كبير وأصبحت هناك أساليب وأدوات استقصاء دقيقة للحصول على المعلومات، فلم تعُد أجهزة الاستخبارات تستخدم الأساليب القديمة نفسها، وما كان يتمّ الحصول عليه عبر تجنيد البشر يتم الحصول عليه بسهولة شديدة عبر الأقمار الصناعية ووسائل التكنولوجيا الحديثة، وما كان يقوم به الباحث العلمي من جهد في الحصول على المادة العلمية الضرورية لبحثه عبر زيارة المكتبات والجلوس فيها لساعات طويلة وشراء الكتب واللقاءات المباشرة مع المبحوثين كلّ هذا أصبح يتمّ بسهولة ويسر عبر شبكة الإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة.
أما المحلّلون السياسيون فكانوا يحصلون في الماضي على معلوماتهم من وسائل الإعلام التقليدية سواء كانت صحفاً أو محطات إذاعية أو تلفزيونية أو وكالات أنباء، أما الآن فقد أصبح الإعلام الجديد (السوشيال ميديا) أحد أهمّ مصادر الحصول على المعلومات، وعلى الرغم من اعتماد العديد من المحللين السياسيين على مواقع التواصل الاجتماعيّ للحصول بشكل سريع على المعلومات فإنّ هذه العملية التحليلية تفتقد إلى الدقة والوضوح، ذلك لما تتمتع به هذه المواقع من فوضى في بث المعلومات، فهناك إمكانيّة تسمح بها هذه المواقع لكلّ مستخدم بالتلاعب في المعلومات وتشويهها بل ونشر أكاذيب وفبركات وفقاً لمصلحة الجهة أو الشخص، لذلك لا عجب إن أصبحت هذه المواقع أحد أساليب وأدوات الجيل الرابع والخامس للحروب التي تستخدمها القوى الإمبريالية العالمية ضدّ مجتمعاتنا العربية.
وللتدليل على ما أذهب إليه، فخلال هذا الأسبوع شهدت الدولة العربية اللبنانية الشقيقة حادثة مأساوية مفزعة تمثلت في انفجار مدوّ داخل مرفأ بيروت والذي خلف عشرات القتلى وآلافاً من المصابين وخسائر مادية تقدر بسبعة عشر مليار دولار. وأجمعت كلّ المصادر على أنّ الانفجار ناتج عن شحنة مخزنة في العنبر رقم 12 منذ أيلول/ سبتمبر 2013 من نيترات الأمونيوم تقدّر بحوالي 2750 طناً، وفي أعقاب الحادثة انهالت الاتصالات من القنوات الفضائيّة والإذاعات والصحف في دعوات لتحليل الحدث بصفتي متخصصاً في الشؤون العربية، وكانت إجابتي لا يمكن الخروج الآن لعدم توافر معلومات حول الحادثة تمكننا من الوصول لتحليل سياسي سليم.
وخلال الأيام التالية بدأت في متابعة الحدث وجمع كلّ المعلومات المتاحة سواء عبر وسائل الإعلام التقليدية أو الإعلام الجديد وكذلك عبر الاتصال ببعض الأصدقاء اللبنانيين القريبين من مسرح الأحداث، وكانت نتيجة عملية البحث والاستقصاء مجموعة هائلة من المعلومات المتناقضة والمتضاربة حول مصدر الشحنة ووجهتها والسبب في تخزينها والمسؤول عن عملية التخزين وسبب الانفجار وتوقيت الانفجار ومَن وراء عملية الانفجار، ومن خلال المتابعة لاحظت العديد من التناقض والتضارب في عملية التحليل السياسي، كلٌّ وفقاً للمعلومات المتوفرة لديه والتي يقتنع بصدقها من وجهة نظره، ولذلك تعدّدت أيضاً السيناريوات المتوقعة المتناقضة والمتضاربة.
وفي ظلّ هذه الفوضى المعلوماتية خاصة المتداولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي أكدت لبعض الأصدقاء المتواصلين معي للتعرّف على تحليلي للحدث، أنه لا يمكن بناء موقف تحليلي سليم في ظلّ هذه الفوضى المعلوماتية، لكن تظلّ مواقف وتصريحات القوى السياسية المختلفة في الداخل اللبناني، وكذلك القوى الدولية حول الحدث مؤشراً هاماً للتحليل. فالمقاومة اللبنانية ما زالت هدفاً رئيساً يسعى العدو الأميركي وحليفه الصهيوني وحلفاؤهم حول العالم وفي منطقتنا للنيل منها، لكن ورغم كل ما حدث ستظلّ المقاومة اللبنانية شوكة في حلوقهم جميعاً، اللهم بلغت اللهم فاشهد.