مخيم اليرموك وتقليعاته
صحيفة الوطن العمانية ـ
علي بدوان:
كلمة (تقليعاته) في الإشارة لمخيم اليرموك، ليست كلمة (سلبية) كما يتناهى للبعض، بل تحمل في طياتها مضمونًا إيجابيًّا بأكثر الحالات، له علاقة بخبرات، وتجارب، وتراكمات، وباشتقاقات حياتية فكرية وسياسية، واجتماعية، وثقافية، وبعراقة. لذلك كانت لمخيم اليرموك الفلسطيني الواقع والملامس لمدينة دمشق من جنوبها القريب خصوصياته المختلفة … وتقليعاته.
لمخيم اليرموك، خصوصية في كل شيء، خصوصية سياسية وطنية فلسطينية بامتياز، وخصوصية قومية عربية في قلب بلاد الشام، وخصوصية إنسانية ذاتُ بعدٍ أممي، وهو التجمع الفلسطيني اللاجئ وسط بحر من الأشقاء السوريين الذين باتت أعدادهم في مخيم اليرموك تناهز أعداد اللاجئين من المواطنين الفلسطينيين بأضعافٍ مُضاعفة.
لمخيم اليرموك خصوصية ديمغرافية، في خارطة الانتشار السكاني في أحياء المخيم التي تضم أبناء وتجمعات قرى وبلدات ومدن فلسطينية بعينها، بالرغم من التحول الذي طرأ على هذه الخصوصية الديمغرافية من ناحية التوسع العمراني خلال السنوات الأخيرة.
ولمخيم اليرموك خصوصيته الثقافية أيضًا، ليس في منطقته وإطاره المحيط فقط، بل في عموم البلاد، فهو موئل لعددٍ كبير من النخب السياسية والثقافية. فقد خرج من بين أزقته وحواريه مئات الحالات الأكاديمية والعلمية والثقافية التي أغنت الحالة والحياة الفلسطينية والسورية، والعربية عمومًا في المجالات المختلفة، بالرغم من ضيق الظروف، وشح الفرص المفتوحة أمام اللاجئ الفلسطيني قياسًا لأقرانه من المواطنين العرب خارج سوريا، وتواضع عوامل الجذب، وتزايد فعل العوامل الطاردة، ولعنة الوثيقة (وثيقة السفر) التي فرملت من انطلاق اللاجئ الفلسطيني، وحدت من صعوده بالرغم من إبداعه من عالم الميكانيك وصنعة السيارات والمهن المختلفة وصولًا إلى رحاب علوم الكون والعلوم الكوانتية.
ولنا أن نستذكر الكثيرين ممن برعوا في تلك الميادين، فمخيم اليرموك وفي جانب واحد فقط له علاقة بالآداب وعلومها أهدى العرب والعروبة أعمدة من النقاد على سبيل المثال، كان منهم الناقد الأدبي المرحوم يوسف سامي اليوسف، والناقد الأدبي المرموق المرحوم الدكتور محمود موعد، والكاتب الدرامي والسيناريست هاني السعدي،
والسيناريست العربي حسن سامي اليوسف، والفنان العربي نزار أبو حجر، والفنان عبدالرحمن أبو القاسم، وعبدالمنعم عمايري .. وهي ليست سوى نماذج تم استحضارها من الذاكرة. لم يُزحها البحث والنقد الأدبي عن الفعل السياسي والوطني العام في مجتمعها الفلسطيني داخل مخيم اليرموك وعموم دياسبورا الشتات والمنافي، ولم يؤسسها أفلاطون ولا أرسطو, ولا كانط ولا هيجل, ولا الدكتور جونسن ولا (ت.س. إليوت) الناقد, ولا الآمدي ولا الجرجانيان, وإنما أسستهم النكبة الفلسطينية, أو الكارثة التي حلت بفلسطين سنة 1948. مخيم اليرموك، ليس مكانًا جغرافيًّا بحتًا، أو موئلًا لمجموعات أو كتل بشرية من اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، إنه جزء أساسي من التاريخ والفعل، الذي يلخص دراما النكبة الفلسطينية وتحولاتها، كما يلخص سطوة وقوة وحضور الفلسطيني، كما يلخص إنسانية ونبل هذا الشعب الذي رمت به أقدار النكبة خارج وطنه التاريخي فلسطين.
رمزية مخيم اليرموك، باتت موجودة بشكل مستديم في سردية العمل الكفاحي للمسيرة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وللوطنية الفلسطينية. فقد تحوّل هذا المخيم إلى مدينة عامرة بمن فيها، وصورة حية عن فلسطين، فكل من عاش بين أزقته وشوارعه، وكل من سكنه وساكن أهله ولو يومًا واحدًا، عشقه، وما انفك عشقه عنه حتى الآن.
إنه المخيم الذي كان قبل محنته الأخيرة ينبض في الحياة ليل نهار، لا تعرف صباحه من مسائه، بأسواقه العامرة المدينية، وبنواديه الثقافية ومراكز المؤسسات الوطنية الفلسطينية المنتشرة على امتداده، والمجتمعية المحلية ومراكز وكالة الأونروا والهيئة العامة للاجئين، ليضم بين ثناياه العدد الأكبر من مثقفي فلسطين وكتابها، وأُدبائها، وفلاسفتها، ومنظريها، ومناضليها، وكوادرها، وفعالياتها، وحتى أطبائها، ومهندسيها، ومدرسيها، ومشاكسيها. فهو أكبر تجمع فلسطيني خارج فلسطين على الإطلاق، إذ تقارب أعداد المواطنين الفلسطينيين داخله بحدود ربع مليون مواطن فلسطيني من أصل أكثر من ستمئة وخمسين ألف مواطن فلسطيني مقيم فوق الأرض السورية، منهم ما يقارب النصف مليون لاجئ منذ العام 1948 وهم من يطلق عليهم اسم “فلسطيني سوري” أو “فلسطينيو سوريا ـ سوريو فلسطين”. حيث يتمركز اللاجئون الفلسطينيون في ما يعرف بـ(لب المخيم) بينما يسكن فيه ويحيط به أكثر من مليون مواطن سوري من مختلف مناطق سوريا من أقصاها إلى أقصاها.
مخيم اليرموك أبو الخصوصيات الوطنية الفلسطينية في سوريا، وهي الخصوصيات التي أفرزت تقليعاته الخاصة، والتي ميزته ودمغته بطابعٍ خاص، يختلف عن أي طابع في أي منطقة جغرافية سكانية على امتداد الأرض العربية السورية. ولتك الأسباب اسُتهدِفَ مخيم اليرموك، وجرت محاولة اغتياله ووأده، كما اسُتهدف من أجل إهالة التراب على حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى أرض وطنهم التاريخي في فلسطين.
في تقليعات مخيم اليرموك، تكرست عادات، وقيم، وتقاليد، ومُثل، وتجارب إيجابية اعترتها بعض السلبيات. ومن بين تلك التجارب نمت الروح الوطنية والقومية والإنسانية التي صقلت وعي أعدادٍ كبيرة من شبان ورجالات مخيم اليرموك، فكل خمسة من شبان من مخيم اليرموك ورجالاته يصلحون لبناء مؤسسة أو هيئة، أو حزبٍ أو تنظيمٍ من طراز جديد، نتيجة تلك التجارب التي عَرَكَت الناس في ميادين العمل … في الشارع… في الجامعات … في أماكن العمل … لكن محنة مخيم اليرموك الأخيرة، وحالة التشتت القسرية التي تمت جعلت من تلك الخبرات تضيع في مسارات الحالة المُعقدة المتأزمة في سوريا (والتي نأمل بتجاوزها في القريب الراهن) نتيجة وجود لاعبين، لا يهمهم البلد ولا مصير اللاجئ الفلسطيني في سوريا، بل يهمهم تصفية الوجود المعنوي والمادي الذي يرمز لقضية العودة ولحق اللاجئين الفلسطينيين بوطنهم الأزلي فلسطين التاريخية.