محمد الدرة يعود
صحيفة الخليج الإماراتية ـ
أمجد عرار:
ها هي قضية الطفل الشهيد محمد الدرة تعود من جديد على متن تقرير “إسرائيلي” . عندما هزّ استشهاده محتمياً بوالده برصاص الاحتلال في غزة، ضمير العالم كلّه باستثناء معدومي الضمير من حلفاء الاحتلال ورعاته، أقدم ناشطون صهاينة على تلبيس صورة الطفل قلنسوة يهودية وأعادوا نشر المشهد على شبكة الإنترنت لقلب الصورة لإلصاق تهمة الإرهاب والإجرام بالفلسطينيين . أما “إسرائيل” الرسمية فقد كرّرت نفي علاقتها بالجريمة .
لم يكن النفي مستهجناً بالنظر إلى فداحة الجرم المرتكب بحق طفل صغير اتخذ من أبيه متراساً علّه يقيه من الرصاص، ولم يتوقّع أي عارف بطبيعة الصهيونية وجيشها وكيانها، أن تخرج على الملأ وتعترف بالجريمة وتحتمل ما قد يترتّب على الاعتراف بالجريمة .
الآن وبعد مرور قرابة ثلاثة عشر عاماً على الجريمة يخرج علينا رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو بشحمه ولحمه لا لينكر مسؤولية جيشه عن ارتكاب الجريمة، بل لينتج تقليعة أقرب للمسخرة السمجة، مستنداً إلى تقرير لجنة حكومية رأسها وزير الحرب موشيه يعالون وهو متهم دولياً بارتكاب جرائم حرب . هذه اللجنة لم تجد أدلة تشير إلى مسؤولية جيش الاحتلال عن قتل الطفل، لا بل تزعم امتلاكها أدلة على أن الطفل لم يستشهد بل حي يرزق، ويعيش حياته بشكل طبيعي .
هذا التقرير الذي يتأرجح بين النكتة والوقاحة أثار فضولنا كي نرى تسجيلاً “إسرائيلياً” يظهر لنا الدرة وهو يقرأ الفاتحة على قبره مثلاً، أو يغادر الجامعة أو يدخل مطعماً للسمك على شاطئ غزة . لا شيء من هذا القبيل، فقط “إسرائيل” تقول وعلى العالم أن يأخذ التقرير بلا تفكير أو نقاش أو تشكيك، وعلى الشعراء أن يسحبوا من التداول كل قصائدهم التي نظموها في رثاء الطفل، والمطربين أن يسحبوا تسجيلات الأغاني التي أطلقوها بعد استشهاده من دون أن يسمعوا تقرير موشي يعالون الذي يخرج علينا بعد حين بتقرير يؤكد أن صلاح شحادة يمارس حياته الطبيعية في غزة، وأن الشيخ أحمد ياسين ما زال يقود كرسيّه المتحرك في شوارع غزة، وأن من اسشهد في غارة الفجر تلك لم يكن سوى شبيهه، وأن ياسر عرفات حي يرزق وهو الذي حاول اغتيال أرئيل شارون بالسم، وأن الطائرات “الإسرائيلية” قصفت مقراً مهجوراً في رام الله، وربما يقدم لنا التقرير “الإسرائيلي” المقبل دليلاً على أن أبو علي مصطفى لم يستشهد بل يمارس حياته الطبيعية في مخيم اليرموك في سوريا .
وقد تصدّق “إسرائيل” كذبتها وتطرب لها وتطلب من نفسها المزيد، فتقدم للعالم تقريراً أن مجازر دير ياسين وكفر قاسم والدوايمة والطنطورة والمسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي وبحر البقر وقانا الأولى والثانية، لم تحدث، وأن آلاف الضحايا الذين قضوا في تلك المجازر أحياء يرزقون، وربما حصلوا على تأشيرات هجرة وإقامة في كندا . وربما يتبيّن لاحقاً أن الأسرى المصريين هم الذين دفنوا الجنود “الإسرائيليين” أحياء في رمال سيناء وليس العكس .
“إسرائيل” تنكر مسؤوليتها عن النكبة، بل تنفي حدوث نكبة أصلاً، وتطرح قضية “لاجئين يهود”: مقابل قضية اللاجئين الفلسطينيين، وخرافة الهيكل كبديل للمسجد الأقصى، وهي أنكرت اصلاً وجود شعب فلسطيني وأنشأت خرافة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” . هي تدعي ما تريد، لا بأس، لكننا نخشى أن تجد ادعاءاتها من يروّج لها من المثقفين العرب .